الاثنين، 3 مارس 2008

البواب الأعرج

البواب الأعرج

قصة محمود البدوى


عندما ضرب الألمان مدينة الإسكندرية بالقنابل ليغرقوا الأسطول الإنجليزى .. ضربوا منطقة البحر ضربا شديداً ..

وأصابت القنابل عمارة ضخمة فى شارع الكورنيش ، فهوى طابقان منها ، وطارت بعض شرفاتها ، وتناثر زجاج نوافذها..

ومع هذا فقد خرج سكان العمارة من المعركة سالمين .. فقط أصيب بوابها .. أصابته شظية فى قدمه اليمنى خرج بعدها من المستشفى يعرج .. ورضى الرجل بحكم القدر ، واستسلم للمصير المحتوم ..

وعاد يجلس على الدكة فى مدخل العمارة كما كان يرقب الداخلين والخارجين بعينى الذئب الجائع ..

وكان معظم سكان العمارة فى أيام الحرب من الجنود الإنجليز ، وكان منظرهم فى ملابسهم الرسمية ، وما يحدثونه دائماً من ضوضاء وجلبة فى غدوهم ورواحهم ، يثير السخط فى نفس البواب ..

كما أنه كان ينظر إليهم دائما بعين الكراهية .. لأنهم كانوا السبب فى بلواه .. فلولا وجودهم فى هذه المنطقة ما ضربت العمارة ، ولا أصابته الشظية ..

فلما أنتهت الحرب وغادر الجنود العمارة تنفس « عثمان » البواب الصعداء وشعر بأنه عاد يتنفس فى جو من الحرية كما كان منذ ست سنوات .. على أن عرجه زاده انطواء على نفسه ، وبعداً عن الناس ..

كان سكان العمارة جميعاً يعرفون أنه يكره النساء .. فلا يحب أن تجلس الخادمات على دكته .. كما أن واحدة منهن لن تجرؤ على دخول غرفته ..

وكان يتضايق أشد الضيق حتى من سيدات الأسر ، وهن جالسات على الدكة فى انتظار المصعد ..

وكان أشد الأشياء على نفسه أن تكلفه امرأة بعمل .. قبل العرج وبعده ، كان ينطوى لهن على بغض شديد ، لم يكن يعرف مأتاه ولا مصدره .. مجرد وجودهن فى ممشى العمارة ، أو على بابها ، أو بالقرب من غرفته .. كان يجعله ينفعل ، ويتغير ويكاد يثور .. وهو لا يدرى لذلك سبباً ..

***

وفى صباح يوم علم أن الشقة رقم 4 فى الدور الأرضى بالعمارة ، قد أجرت إلى أسرة من القاهرة مدة الصيف ، فحمل المكنسة ونظفها ، وأغلق نوافذها ..

وجاءت الأسرة فى قطار الظهر ، وكانت مكونة من سيدة وسيد ولا ثالث لهما .. وفتح لهما البواب الشقة وحمل الحقائب من السيارة .. وأشفقت السيدة على الرجل ، ففتحت حقيبتها الجلدية الأنيقة وأعطته ريالا فحنى رأسه وخرج .. ولأول مرة رأته السيدة يعرج .. !

وفى أصيل اليوم نفسه رآهما البواب يخرجان ويتمشيان فى طريق البحر .. وكانت السيدة أنيقة وجميلة وصغيرة .. والسيد رجلا فى الأربعين حسن الملبس مليح القسمات .. ولما عادا من نزهتهما ، كان البواب جالسا فى غرفته ..

وسمع صوت السيدة وهى تصيح :
ـ يا بواب .. يا بواب ..
فلم يتحرك .. وبعد قليل رآها واقفة على بابه تنظر إليه بعينيها الناعستين ..

وتسأله :
ـ أنت اسمك إيه .. ؟
فرد عليها بصوت منفعل :
ـ عثمان ..
ـ تسمح تفتح لنا الباب .. ؟ مش راضى ينفتح ..

ونهض فى تثاقل ، وهو يرميها بالنظر الشزر .. وفتح الباب .. وعاد إلى مكانه ، ورأى السيدة تقابل نظراته الشزراء بنظرات ناعمة متكسرة .. فازداد غيظا وحنقا ..

***

فى الصباح حمل للسيدة حاجتها من السوق ..

وكان يروح ويجىء فى الطريق مرات ومرات ولا يشعر بتعب .. !
وفى كل يوم كان يفعل ذلك ..

وفى الضحى كان يحمل المظلة والكراسى إلى البلاج ، ويسير وراء السيدة كالكلب الأمين .. ! وينصب لها المظلة ثم ينصرف ..

وقد شعر على توالى الأيام بأنه تغير ، ولم يعد يثور لأتفه سبب ، ويحتد على الخصوص وهو يحادث النساء ..

لقد تغير وتغير .. ! وأصبح ينام نوما عميقا فى الليل ، ويستيقظ مبكراً فى الصباح ، ولا يحس بضربات قلبه ، وثورة دمه .. كلما سمع صوت امرأة .. لقد عاد إلى سكينة نفسه ..

وذات يوم نزل إلى البحر ليرجع المظلة كعادته ، فلم يجد السيدة جالسة تحتها تقرأ فى كتاب كما اعتاد أن يراها .. ودار ببصره ورآها مقبلة من بعيد فى لباس البحر ..
ولأول مرة يراها هكذا شبه عارية ..!

وأحس بمثل النار تسرى فى ألياف لحمه .. وأدار رأسه ..

ولما ارتدت ملابسها حمل المظلة ومشى وراءها ، ولأول مرة يجد نفسه ينظر إلى جسمها من الخلف ويعجب بمفاتنه .. وأخذه مثل السعار ودخل معها الشقة وهو يرتجف ، ووضع المظلة ، ومشى إلى غرفته .. وأغلق بابها ..

***

كان ينام فى غرفته ، فأخرج فراشه ونام به على الدكة ليقترب من بابها ويرى النور وهو يطفأ فى غرفتها ..

كان يتقلب طول الليل فى فراشه ويتسمع وقع أقدامها .. ويصغى إلى صوتها وهى تحادث زوجها .. زوجها الذى يعود من سهراته متأخراً دائماً وغالباً ثملا ... وغالباً مقامراً ..

وفى كل أصيل كان يراها جالسة فى غرفتها المطلة على البحر ، وكان يقف عند الحاجز الحديدى على الكورنيش ، ووجهه إليها وعيناه لا تتحولان عنها .. وكانت تدخن وترمى بأعقاب السجاير من النافذة ..

فإذا غربت الشمس اقترب من النافذة ، وجمع هذه الأعقاب ومضغها بشراهة ونهم ..

وكان يحس بلذة عنيفة تهز كيانه كله ، وبمثل الإعصار يحمله ويدور به .. ويود لو ينحدر من النافذة ، ويحملها بين ذراعيه ويمضى بها فى الظلام ..

وكان يحلم بها فى الليل ويستيقظ من الحلم وهو يتفصد عرقا .. ويزحف على رجليه حتى يقترب من باب شقتها ، وهناك يمرغ وجهه بمواضع أقدامها ويظل ملتصقاً بالباب إلى الصباح .. !

لاحظت سعاد هانم أن زوجها أصبح يتأخر كثيراً فى سهراته .. وهى تخاف فى الليل وحدها .. ولما حدثته عن ذلك ..

قال لها وهو يضحك :
ـ كيف تخافين .. وغرفة البواب بالقرب من باب الشقة .. ؟ !
ـ ولكننى أخاف ..
ـ إنك ما زلت طفلة .. !
وتألمت وصمتت ..

ونامت سعاد هانم فى ليلة من الليالى بعد العشاء مباشرة .. واستيقظت فى هدأة الليل ، ونظرت إلى ساعتها ، فوجدتها الأولى بعد منتصف الليل .. وكان زوجها لم يعد من سهرته بعد ، فأدركت أنه يقامر فى هذه الليلة إلى الصباح ، كعادته فى الليالى التى يتأخر فيها ..

وظلت ساهرة تستمع إلى هدير الأمواج على الشاطئ .. وكانت الشقة ساكنة لا حس فيها .. لا صوت كلب ، ولا نفس إنسان يشاركانها هذه الحجرات الأربع ..

وأحست بالخوف يسرى فى كيانها فازداد خفقان قلبها .. وثبتت بصرها على الباب .. وخيل إليها أنها تسمع حركة فى الردهة فاعتدلت فى جلستها ، وأطلت من فوق السرير لترقب زوجها ، فلم يدخل عليها أحد ..

فنزلت وأخذت تتمشى فى الغرفة .. وأشعلت سيجارة وجلست على كرسى طويل ، وعيناها إلى النافذة المطلة على الطريق ..

كانت تود أن تفتح هذه النافذة لتستأنس بحركة السيارات التى تمر من حين إلى حين .. ولكن النافذة تعلو قليلا عن رصيف الشارع فكيف تفتحها فى الليل ..

ظلت جالسة والخوف يشل حركتها ، وسمعها متيقظ ، وعيناها مفتوحتان .. وسمعت نقراً على الباب .. أنسى زوجها المفتاح .. ؟ أم أضاعه فى الطريق ..؟ يحتمل هذا وذاك ..

مشت إلى الباب وهى ترتجف هلعا .. وفتحت الشراعة الزجاجية ، ونظرت منها فلم تر أحداً فأغلقتها ، وعادت إلى غرفتها ..

وبعد قليل سمعت النقر على الباب مرة أخرى .. فنهضت واتجهت إلى الباب ، وفتحته وقلبها يكاد ينخلع من بين ضلوعها .. وحدقت فى الظلام فلم تر أحداً ..

ووجدت البواب نائما فى الممشى ، قريباً من الباب ، فنادته وهى تنتفض :
ـ عم عثمان ..
وتحرك البواب ، وفتح عينيه ، ونظر إليها فى ذهول ..

وقال بصوت خافت :
ـ نعم ..
ـ إننى خائفة وحدى .. تعال نم فى الصالة ..
ونهض البواب .. ورآها وهى تهتز كالقصبة فى مهب الريح .. ودخل وراءها ، وأغلق الباب ..

***

عندما حمل عثمان المظلة لسعاد هانم فى ضحى اليوم التالى ، ومشى معها إلى البحر ، نظرت إليه من قمة رأسه إلى أخمص قدمية ، وكأنها تراه لأول مرة..! واشمأزت من هذه القذارة .. أهذا هو الرجل الذى قضت الليل معه .. ! اشمأزت من نفسها .. إنه لا يغير ثوبه القذر .. وما استحم قط والبحر على قيد خطوات منه .. !
أى نتن هذا .. ! ولعنت زوجها ، واحتقرت نفسها .. !


ولكن عندما ينتصف الليل ، ويشتد السكون ، ويعلو موج البحر ، كانت تجد موجة طاغية عاتية .. آتية من بعيد تحملها إلى هذا الرجل .. ولم تكن تستطيع مقاومتها ولا دفعها .. كانت الموجة العاتية تحملها فى الظلام وهى غائبة عن رشدها .. فإذا عادت لنفسها فى الصباح ، نظرت إلى هذا الرجل ، فوجدته قبيح الوجه ، قذر الثوب ، أعرج .. فيزداد احتقارها لنفسها ويشتد .. وتكاد تجن مما وصلت إليه حالها ..

فى كل ليلة كانت تحاول أن تقاوم وأن تبقى فى مكانها .. ولكن يداً سحرية كانت تجذبها إليه .. وفى غمرة المد كانت تتمرغ فى الوحل .. وفى الصباح كانت تتحسر ، وتنفض ما علق بثوبها من قذارة ..

***

ولما انقضت أشهر الصيف ، حزم الزوجان حقائبهما ، واستعدا للسفر وركب معهما البواب السيارة إلى المحطة ..

ولما تحرك القطار ، دفع الزوج يده فى جيبه ، وأعطى بعض النقود للبواب فاحنى هذا رأسه ، وانصرف يعرج على الرصيف ..

وقال الزوج لزوجته :
ـ إنه مسكين .. !

فصمتت الزوجة ، ونظرت إلى زوجها ، وعلى وجهه أمارات الطيبة ، وعقد لسانها ، وشرد ذهنها طول الطريق ، وتصورت نفسها أكثر من مرة تحت العجلات ، والقطار يمزق جسمها تمزيقا ..

=================================
نشرت القصة فى مجموعة " العربة الأخيرة " وأعيد نشرها بمجموعة " قصص من الإسكندية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
=================================

ليست هناك تعليقات: