الاثنين، 3 مارس 2008

الأصلع

الأصلع


قصة محمود البدوى

هل قرأت قصة الرجل الذى يلبس شارة الحداد لدستويفسكى .. وكان يلتقى بالبطل كلما حل فى مكان حتى أصبح يكرهه كرها مرا ويبغضه بغضه للموت ..

لقد التقيت بهذا الرجل فى مجرى حياتى ، ولكنه لم يكن يضع شارة الحداد كأحد أبطال دستويفسكى .. بل كان اصلع مسطح الرأس .. منتفخ الوجنتين قصير العنق يتطلع إليك بعينى فأر ..

عينين ضيقتين رجراجتين تبغضهما من أول نظرة لأنهما تستشفان أغوار نفسك وتعريانك من جلدك ..

ولقد حطت على هاتان العينان لأول مرة فى مطعم صغير بحى الحسين فى الوقت بين العشرين والثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1942 ..

وكان المولد قد انقضى منذ خمسة أيام .. وكنت الزبون الوحيد فى المطعم لأن الوقت لم يكن وقت غداء .. أو عشاء ..

وإذا بهاتين العينين الضيقتين تحدقان فى وجهى بشراسة وأنا امضغ الكبدة .. فتوقف فكاى عن المضغ وشعرت بانسداد الحلقوم .. ووقع فى تقديرى لأول وهلة من الحالة التى رأيت عليها الرجل إنه يبحث عن شخص منذ عشرات السنين لثأر قديم ..

فلما وجده فى هذا المكان الصغير الذى لم يكن يتوقع وجوده فيه شعر بفرحة كبرى .. انتفضت لها جوانحه .. واتسعت عيناه ثم ضاقت من فرط السرور الباطن الذى رقص له قلبه .. وفاضت تعابير وجهه بأشياء عجزت عن وصفها فى هذه اللحظة ..

وعندما لوى وجهه عنى بعد قليل ليدفع الحساب للجرسون استطعت أن أقيس طوله وعرضه .. كان سمينا قصير الساقين يرتدى بدلة رمادية كاملة .. وخيل إلىَّ من فرط تكسرها وتثنى أطرافها أنه ينام بها ..

وكان قميصه متسخا وحذاؤه أكثر اتساخا حتى قدرت أنه لم ينظفه منذ بداية المولد ..

وكنت اتوقع أن ينهض بعد أن دفع الحساب ويذهب لشأنه ولكنه ظل جالسا يتابعنى بنظرات أشد ضراوة ..

وتيقنت بعد أربع دقائق من التحديق المتصل اننى شبهت له وأنه يتبع رجلا له مثل ملامحى تماما ..

وخطر فى بالى لأريحه وأريح نفسى أن اذهب إليه وأبين له ما فى تصوره من خطأ .. ولكننى تركته على حاله عندما وجدته قد ابتاع جريدة مسائية .. وأخذ بقلب وجهه بين صفحاتها سريعا ثم طواها ونهض على التو ..

وكدت انساه تماما .. فقد مر يوم ويوم مثله .. لم أره فيهما .. ثم وجدته يدخل ورائى من مدخل فندق « رمضان » بالسكة الجديدة .. ويرتكز على البنك أمام موظف الفندق ..
وصعدت إلى غرفتى وتركته لأتجنب النظر إلى طلعته ..

* * *

والتقيت به بعد ذلك مصادفة فى شارع الغورية .. مرتين مواجهة .. وفى كل مرة كان وجهى يحتقن من الغضب ..

وايثارا للسلامة .. وقد تكون هذه المقابلات كلها مجرد مصادفة .. وقد يكون هذا الرجل الأصلع المخبول يتبعنى هكذا للوثة فى عقله .. إيثارا للسلامة .. إنتقلت إلى شارع كلوت بك حيث ظلام الحرب والبواكى والمواخير .. والحشد المتدفق من الجمهور .. وعساكر الإنجليز وحلفائهم .. وضعت فعلا فى هذا الزحام ..

ومرت خمسة أيام طيبة .. أحسست فيها براحة نفسى وهدوء أعصابى ..

وفى عصر اليوم السادس .. وجدته أمامى وأنا واقف على دكان سجائر تحت البواكى .. وكانت نظرته صارمة متحدية .. حتى حسبته يسخر من هروبى وانتقالى من حى إلى حى .. وزادتنى نظرته مقتا له .. وسببت لى حالة من الرعب أفزعتنى وجعلت العرق يتفصد من جبينى ..

وكان يتحتم على أن أبقى فى القاهرة إلى منتصف سبتمبر لأعمال تتعلق بنزاع على وقف فى أرض شريف .. وما زلت فى بداية شهر أغسطس .. وانتقالى إلى فندق ثالث فى حى آخر سيزيد من مرض أعصابى ويجعلنى فى حالة أقرب إلى الجنون ..

* * *

وتركت المقادير تجرى ..
وكل ما أستطعت أن أفعله هو أننى تخيرت مقهى بجوار كوبرى « أبو العلاء » فى حى بولاق لأقضى فيه السهرة بدلا من مقاهى العتبة .. حيث يكثر الإنجليز السكارى ..

وكنت أشعر بالهدوء والراحة فى هذا المقهى لأنه يطل على النيل مباشرة ولأن واجهته بحرية ولأنه رغم جمال موقعة قليل الرواد فى النهار والليل ..

ورغم المشوار الطويل الذى أقطعه كل ليلة فى طريقى إليه فقد استرحت إليه وأحببته لأنه فى حى شعبى .. بعيد عن أمكنة العساكر الإنجليز الذين أخذوا يتكاثرون فى قلب العاصمة .. بعد هزيمتهم فى الصحراء ..

وكانوا منكسرين على طول الجبهة .. ويغطون إنكسارهم بالعراك مع المصريين كلما التقوا فى مكان ..

وحاول أحد العساكر ذات ليلة خطف طربوشى .. ولو أننى أحمل نصلا حادا أتوماتيكيا معى دائما منذ بداية الظلام وأشهرته فى وجهه فذعر وتركنى لحدث ما لا تقدر عواقبه ..

وكانوا يسمعون المصريين يهتفون تقدم (يا روميل) فيزداد غيظهم وسعارهم ..

وكنت أجلس فى مواجهة الكوبرى وأرى فى كثير من الأحيان قوافل السيارات الضخمة مغشاة أنوارها وذاهبة إلى الصحراء تقودها السائقات الجميلات فى ملابس الحرب ..

وكان منظرهن يهز مشاعرى ويجعلنى أفكر فى الأنثى بإحساس شاب فى الخامسة والعشرين ..

واستراحت أعصابى فى المقهى .. واسترحت فيه كلية من شبح الأصلع الذى مزق ألياف لحمى وجعلنى أعيش فى رعب ..

وكانت حجة الوقف التى جئت بسببها إلى القاهرة قد أمكننا العثور عليها مطمورة بين أكداس الأوراق .. وقد جعلنى هذا أكثر سعادة .. فمشيت فى تلك الليلة على كوبرى « أبو العلاء » وكان القمر قد تم والهواء رخيا وحركة السيارات قد خفت .. والكون كله يوحى بالسكون وأن الناس قد ذهبوا إلى مضاجعهم ..

وفى وهج الأحلام بما تدره علينا حجة الوقف بعد العثور عليها مما جعلنى أتأنى فى السير لتتضح الصورة وتتشكل المعالم الذهبية .. سمعت وقع أقدام خفيفة خلفى .. أقدام رتيبة تقرع خشب الكوبرى فى وقع واحد لا تغيره .. ثم خفتت جدا وخيل إلىَّ من خفوتها أنها تبتعد عنى .. ولا تسير ورائى .. فلما تلفت لأتحقق من تصورى .. وجدت شبح رجل يتبعنى فى الظلام .. ولا يبتعد عنى كما قدرت ..

وتمهلت وأنا أدير رأسى لأستوضح ملامحه ، ولما وقع بصرى على صلعته .. وقف شعرى ، وانتابنى فزع لا أستطيع وصفه .. إنه الرجل بعينه خرج من أعماق الماء .. أو تسلل من وراء الكوبرى .. أو كان يتبعنى كظلى عند ما خرجت من المقهى .. لم أكن أدرى .. تسلط علىَّ غضب أرعش بدنى كله .. وجعلنى أفكر فى خنقه .. إجتاحنى غضب أسود ..

وعندما خرجت من طوار الكوبرى .. أعترضتنى قافلة من سيارات الجيش الإنجليزى .. فغاب الأصلع عن بصرى فى زحمة السيارات .. وبعد مرور القافلة لم أعثر له على أثر ..

* * *

وانتابتنى حالة من الرعب القاتل وأنا فى الفراش جعلت النوم يطير من أجفانى ..

وأخيرا وبعد تفكير طويل راوحت نفسى على أنه حالة من الفزع وتعب الأعصاب وأنه لا يوجد شىء أطلاقا فى حياتى وعملى يجعلان هذا الرجل يتبعنى ..

ولكن فى الصباح .. احتلت رأسى فكرة جديدة ورأيت أن أنفذها على الفور .. أبتعد كلية عن هذا الرجل وأترك له القاهرة ..
وأخذت قطار الظهر المتجه إلى الإسكندرية ..

ولما كنت لا أبغى من السفر التصييف ولا الإستحمام فى البحر .. فقد وقع اختيارى أن أنزل فى فندق صغير ( بالمنشية ) حيث المطاعم الشعبية الرخيصة وحيث يوجد مركز الثقل فى المدينة ..

وكنت أسهر أحيانا فى شارع ( البير ) فى غير ليالى الآحاد .. وهى الليالى التى يكثر فيها البحارة الإنجليز ويكثر مع وجودهم عراكهم وصخبهم .. وكانوا فى حالة فزع من الألمان ورعب مزق أعصابهم ..

ومهما يطل جلوسك لا تشعر بالملل فى هذا الشارع الجميل الفائض بالحيوية والحياة ..

ولهذا كنت ابتعد عنه متحسرا فى مساءى السبت والأحد ... وأقضيهما فى حانة صغيرة بشارع « أديب » وهو شارع أعور قليل الدكاكين ، وحانته أنيقة تنزل إليها بخمس درجات ولا يعرف طريقها الإنجليز ولا حتى المصيفون ..

وفى ليالى الغارات الشديدة كنا نعتبرها أأمن مخبأ لأنها فى جوف الأرض ..

وفى ليلة طيبة الهواء لمحت وأنا أشرب البيرة فتاة مصرية جميلة تجلس إلى مائدة وحدها فى ظل المصباح الجانبى ..

ولم أكن منذ وصولى الإسكندرية قد اتصلت بالنساء .. وجذبتنى الفتاة بعينيها العسليتين والرقة التى فيها ورشاقتها وجمال قوامها..
ودعوتها إلى مائدتى ..

وجاءت وشربنا واتفقنا بعد حوار قصير على أن نذهب إلى شقتها ..

وسرنا متلاصقين فى الشوارع الضيقة وكانت قيود الإضاءة بسبب الحرب تجعلنا نستريح أكثر للعتمة التى كانت عليها المدينة .. ولكن كلما لمحت بعض الإنجليز السكارى من بعيد يغنون وهم يترنحون فى الشارع كنت أتحسس النصل الأوتوماتيكى الذى فى جيبى .. ونبتعد عنهم ..

وكان بيتها فى حارة تتفرع من شارع ( سيزوستريت ) ولم أشعر وأنا أسير بجوارها بطول المشوار .. عندما لم نجد ( تاكسى ) ولا عربة ( حنطور ) فى تلك الساعة من الليل ..

وعندما درنا فى حارتها الضيقة المرصوفة بالبلاط وأصبحنا أمام الباب .. رأيت الرجل الأصلع بلحمة ودمه أمامى فجأة .. وسحقتنى طلعته ..

وفتحت فمى مدهوشا .. وارتعش بدنى كأنما وخز جسمى كله بالأبر ..

وكانت الفتاة قد تقدمتنى فى مدخل البيت فلم تلاحظ حالتى .. وتبعتها وأنا مصعوق ..

* * *

وكانت شقتها صغيرة وجميلة .. وشعرت بالهدوء قليلا عندما أغلقت وراءنا الباب .. ولكن فى حجرة النوم وجدت فى المرآة رأس الأصلع فسح عرقى .. فى اللحظة التى كانت هى فيها تخلع ملابسها ..

وعندما تمددت بجانبها .. كان سيل العرق لا يزال يتصبب ..
فمسحت على جبينى وقالت برقة :
ـ مالك .. ؟
ـ لا شىء ..
ــ شربت كثيرا .. ؟
ـ أبدا ..
ـ جسمك بارد ..
ـ أبدا ..

ونظرت طويلا إلى عينى .. وقالت :
ـ هل تتصور أننى أخالط الإنجليز .. وتخاف من المرض .. ؟
ـ أبدا .. أنك حورية .. ولقد أشتهيتك كأجمل أنثى فى الوجود .. ولكن الأحسن أن أستريح الليلة .. وسأجىء إليك غدا ..
وارتديت ملابسى وقدمت لها جنيها أخذته بصعوبة ..

وسرت فى الشوارع وأنا شبه مجنون .. كنت فى ثورة عارمة .. فقد كان هذا الرجل المجنون السبب فى أن أشعر بالمهانة أمام أجمل أنثى ..

كانت عيناى تقدحان شررا .. وتبحثان عنه .. سرت فى الشوارع ومن حيث بدأت .. جئت ..

ولمحته فى شارع « النبى دانيال » .. يسير الهوينا .. هادئا .. كأنه ما فعل شيئا .. وتبعته ورأسى يغلى كالمحموم .. تبعته كظله .. وأنا أكتم وقع خطواتى .. ولم يكن فى الشارع سوانا .. ومال إلى شارع جانبى ودخل بيتا من أربعة طوابق .. بيتا قديما وسلالم متآكلة وكانت الظلمة فى المدخل وعلى السلم شديدة .. ومع ذلك استطعت أن أصعد وراءه .. وأدركت من وقع خطواته أنه يسكن فى الطابق الأخير ..

وأحسست به وهو يفتح الباب .. ورأيت أن أباغته قبل أن يخلع ملابسه أو يترك فتح الباب لغيره إن كان فى الشقة سواه .. فأسرعت وراءه وضغطت على الجرس .. وأول شىء طالعنى صلعته وأخذته مباغته بضربات حادة وتركت النصل فى جسده لم أنزعه .. وجريت إلى الشارع .. وكان السكون يخيم ..

* * *

وفى الصباح الباكر خرجت من باب الفندق .. وركبت الترام « الدائرى » وأنا مأخوذ تماما ..

كنت فاقد الشعور مذهولا .. وعلى بصرى غشاوة جعلتنى لا أميز معالم الطريق ..

ونزلت فى ( محرم بك ) لأمشى .. وجدت أن الحركة خير من السكون .. فمشيت فى الشوارع ومشيت .. ومن وراء سور عال .. لمحت وجوه أطفال فى داخل الفصل ومن نافذة الفصل الوحيدة .. رأيت مدرسا يضرب تلميذا صغيرا على أطراف أصابعة بسن المسطرة .. كانت الضربات متلاحقة وموجعة .. والتلميذ يصرخ ..

واشتغل رأسى فجأة .. ومضى شىء جعلنى أرجع إلى سن الطفولة ..

وتذكرت مدرس الرياضة الأصلع الذى كان يضربنى فى صباح الشتاء البارد على أطراف أصابعى بسن المسطرة .. والأصابع متجمدة من البرد .. فيكون الوجع رهيبا .. ينخلع له القلب ..

تذكرت مدرس الرياضة الأصلع وكيف كنت أبغضه إلى درجة الموت ولكنه أفلت منى طوال هذه السنين .. ووقع الرجل الآخر المسكين مكانه .. ضحية لعذاب الطفولة ..

وصرخت وظللت أصرخ فى قلب الشارع حتى تجمع حولى الناس وكونوا دائرة أخذت تضيق ولكن الوهج المتطاير من عينى جعلهم لا يقتربون أكثر ..

==============================
نشرت القصة فى مجلة " الهلال " عدد اكتوبر 1970 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " صقر الليل " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================


ليست هناك تعليقات: