الاثنين، 3 مارس 2008

النافذة

النافذة

قصة محمود البدوى


سافرت إلى الإسكندرية لأقضى فيها ليلة واحدة أريح فيها أعصابى من عمل متصل مرهق ..

ومع أنى كنت أود أن أقضى هذه الليلة قريبا من البحر ولكنى لم أنزل من القطار فى محطة سيدى جابر .. وبقيت فيه حتى بلغ محطة « مصر » ..

ولما خرجت من نطاق المحطة .. استقبلنى أكثر من حمال ليحمل عنى حقيبتى .. الصغيرة .. واخترت الذى سألنى إن كنت أرغب فى غرفة مفروشة ..

لأنى كنت أعرف زحام الفنادق فى شهر يوليو .. وأود أن أتعلق بقشة .. فإن لم أجد مكانا فى الفندق الذى اعتدت أن أنزل فيه .. دلنى هذا الحمال على الغرفة المفروشة ولم نجد فى الفندق الذى أعرفه ولا فى غيره من الفنادق فى دائرة محطة الرمل أية غرفة خالية ..

فاستأت جدا .. لأنى أخترت هذا الوقت بالذات لأقضى عطلة الأسبوع .. وسرت مع الشاب إلى الغرفة التى حدثنى عنها ..

ولما رأيتها لم تعجبنى إطلاقا .. وبدت لى صاحبة البنسيون نفسها .. بدت كأنها « عالمة » فى شارع القلعة .. ‍!

فذهب بى الحمال إلى غرفتين أخريين .. فلم تروقا لى أيضا .. وأخيرا قال لى :
ـ لا يوجد سوى هذا .. نحن فى عز الموسم ..

فقلت له :
ـ أنى أفضل أن أقضى الليل .. فى الشارع .. على النوم فى مثل هذه الغرف .. إبحث عن شىء مناسب ..

ففكر قليلا ثم قال :
ـ تفضل واسترح قليلا .. على هذه القهوة .. هناك غرفة ستعجبك .. لكن صاحبتها .. لم ترد أن تؤجرها لإنسان وسأحاول إقناعها بكل الوسائل ..

وجلست وجاءنى بعد نصف ساعة .. وهو يسرع فى مشيته وقال بلهفة ..
ـ تفضل .. قبل أن تغير رأيها ..

ومشيت معه .. حتى وقف على باب بيت كبير .. وصعدنا إلى الدور الثانى .. وفتحت لنا سيدة مسنة الباب .. وكانت تضع يدها على عينيها كأنها لا تقوى على مجابهة الضوء ..

ونظرت إلينا طويلا .. لتذكر سبب وقوفنا على بابها .. ثم قالت :
ـ آه تفضل ..

ودخلنا البيت .. وطالعنى الهواء المرطوب .. وخيل إلىَّ وأنا فى الصالة ألا أحد يتنفس فى الداخل .. فقد كان الجو خانقا ومحبوسا وبدا لى أن نوافذ الشقة لا تفتح أبدا ..

وتقدمت أمامنا السيدة إلى غرفة فسيحة بعد أن فتحت النور فرأيت غرفة جميلة مفروشة بفاخر الرياش وهو شىء لم اقع على مثله فى المصيف ..

وطلبت من السيدة أن تفتح نافذة الغرفة .. ففتحتها بعد تردد وهى تنظر إلى ناحيتى بقوة ..
وسألنى الشاب :
ـ أعجبتك الغرفة .. ؟
ـ رائعة ..
ـ السيدة تطلب .. جنيها فى الليلة ..
ـ طيب .. هل أدفع لها المبلغ الآن ..
ـ أبدا .. على راحتك .. أدفع بكرة ..

وأخرجت ورقة بخمسة وعشرين قرشا ناولتها للشاب فاخذها وأنصرف .. وبقيت أنا فى الغرفة ..

وسمعت السيدة تقول له .. قبل أن تخرج من الباب الخارجى :
ـ الم تقل لى .. إنه عجوز .. هل هذا عجوز .. ؟
ـ ياسيدتى .. إنه شاب طيب وسيقضى ليلة ويذهب لحاله .. هل سيأخذ قطعة من الشقة ..
ـ ما كنا .. نريد أحدا ..
ـ يعنى نقول له أخرج .. الآن .. أظن هذا لا يليق ..
ـ إنك تعرف أننا وحدنا .. ماذا يقول الناس .. ؟
ـ يا سيدتى كل الناس الآن تستفيد من الصيف والبيه يجىء كل أسبوع .. يعنى لماذا لا تستفيدين منه بضعة جنيهات أحرام .. ؟
وانقطع صوته بعدها وخرج ..

وفتحت حقيبتى وأخرجت فوطة .. وذهبت إلى دورة المياه لأغسل وجهى ..

ولما رجعت سألتنى السيدة .. وكانت تنظر إلى بتوجس ..
ـ هل تريد شيئا .. ؟
ـ كوبا من الماء المثلج .. إذا أمكن ..
ـ حاضر ..

وذهبت .. وعادت تحمل الماء .. وكانت فى الخمسين من عمرها .. ولكنها كانت تبدو أكبر من ذلك .. كانت التجاعيد قد ظهرت على وجهها... والعينان انطفأ منهما البريق ..

ودارت ببصرها فى الغرفة ثم حيت وانصرفت .. ودخلت غرفتها وأغلقت عليها بابها .. وطالعنى السكون المطلق من البيت .. سكون الرمس .. فلم أسمع حسا ولا صوت ولا دقة ساعة ولا منبه ولا صوت وابور .. ككل الأشياء التى نراها فى البيوت ..

ورغم إحساسى الشديد بالجوع .. فإننى لم أترك البيت لأتعشى .. ودفعنى الفضول لأن أبقى ساعة ثم أخرج فقد كنت أود أن أعرف مع من تعيش هذه السيدة .. ولكنى بقيت ساعة .. دون أن أبصر أحدا سواها .. وأخيرا خرجت لأتعشى وأتنزه فى المدينة ..

وعدت فى نصف الليل .. وفتحت لى نفس السيدة الباب .. وخيم السكون من جديد .. ووجدت كل النوافذ وأبواب الغرف مغلقة .. ومع أنى اعتدت على النوم فى الفنادق والبنسيونات وفى الفراش الغريب .. ولكننى توجست خيفة من البيت ومن السكون المخيم ومن نوافذه وأبوابه المغلقة دائما ..

وقد أخذت هذه الخواطر تتجسم وترعبنى وتذكرت كل ما قرأته من القصص المرعبة عن الفنادق والبنسيونات مرة واحدة .. قفزت كل هذه السوانح إلى ذهنى فجأة ..

وأغلقت الباب .. ولم أجد فيه مفتاحا .. وزادنى هذا رعبا .. فظللت ساهرا ..

وفى صراع مع هواجسى النفسية .. حتى تعبت وأخذنى النوم وأنا مضطجع ولما فتحت عينى كان الصبح قد شعشع ..

ورأيت وأنا ذاهب إلى الحمام بابا نصف مفتوح .. ووجها ينظر إلىَّ بفضول .. وجه فتاة لا تتجاوز العشرين عاما كانت تنظر إلىَّ بعينين مفتوحتين جدا .. كأنها ترى رجلا لأول مرة فى حياتها ..

وأحسست فى الحمام بالرطوبة الشديدة .. تطل من الجدران .. وبدا لى أن النافذة لا تفتح أبدا .. واغتسلت سريعا .. وعندما عدت إلى الصالة .. وجدت الفتاة لا تزال واقفة فى مكانها .. ونظرت إلىَّ بعينين أشد جسارة ..

ودخلت غرفتى وتركت الباب مفتوحا ومرت الفتاة أمامى ووراءها السيدة كانتا تنظفان البيت .. دون فتح النوافذ ..

وكانت الفتاة كلما دخلت غرفة .. دخلت السيدة وراءها .. وظهر لى جليا أنها تتبعها كظلها فى كل حركة.. وأنها بمثابة الحارس .. عليها ولكنه الحارس الأحمق الذى يمنع عنها الشمس والهواء ..

وكانت الفتاة مع جمالها النادر .. صفراء شاحبة .. وبدا لى اضطراب أعصابها .. من كل حركاتها فى البيت ..

وطلبت فنجالا من القهوة من السيدة بكل لطف وأدب مخافة أن ترفض ..

وحملته لى الفتاة على صينية صغيرة .. فطلبت منها أن تضعها على المائدة التى فى الصالة .. وبعد نصف دقيقة كانت السيدة وراءها وكانت الفتاة مضطربة جدا وخجلى ..

ونظرت إلى الظلام الذى يخيم على البيت فى الساعة الثامنة صباحا وإلى الهواء الراكد .. وإلى جو يحس معه المرء بالاختناق ..

وقلت للسيدة :
ـ لماذا لا تفتحين النوافذ كما فتحت نافذة غرفتى ألا ترين فعل الشمس .. ؟
ـ لقد اعتدنا على ذلك منذ سنوات طويلة ..

ونظرت إلى حالها فى أسف وأخذت أشرب القهوة وأحادثها وعلمت أنها عانس وأن سعاد هى أختها الوحيدة .. وأن والدتهما كانت لبنانية وأبوهما مصرى وكانا يشتغلان فى صيدلية مشهورة فى المدينة وتوفى الوالدان منذ سنوات وتركاهما لعيش الكفاف وهما الآن يقضيان معظم الوقت فى البيت ولا يتنزهان ..

ولم أسألها لماذا لم تتزوج لأنه وضح لى جدا أنها تنفر من الرجال وأنها رفضتهم منذ سنوات وقد تكون كرهتهم وأنها تحاول الآن أن تجعل الفتاة الشابة مثلها وتعيش حياتها ..

وزادت نفسى حسرات على الفتاة وأن أرى هذا الجمال النادر يروح ويجىء أمامى وهو محبوس فى شبه قمقم ..

وارتديت بدلتى وقلت للسيدة وأنا أحمل بيدى ماكينة الحلاقة الكهربائية ..
ـ هل توجد ( بريزة ) فى الحمام أضع فيها الماكينة .. ؟
ـ فى المطبخ أريها له يا سعاد .. وسأجىء لك بمرأة صغيرة حالا ..

ومشيت وراء سعاد إلى المطبخ وتناولت منى حبل الماكينة الكهربائية لتضعه فى البريزة ووقفت أبحث عن المكان الذى نعلق فيه المرآة ..

وسمعت صرخة حادة من الفتاة .. كانت وهى تضع طرف الحبل فى البريزة قد سرت فيها الكهرباء من الرطوبة الشديدة فارتعشت ووقفت حائرة وقد شلت عن الحركة فجذبتها بسرعة ووجدتها دون شعور ترتمى على صدرى بقوة وتضغط وتبكى بحرقة ..

ولما جاءت السيدة بالمرآة شاهدت هذا المنظر الأخير ففتحت فمها ولم تنطق ..

ومشينا بالفتاة إلى الصالة وبعد أن مسحت عبراتها وذهب عنها الروع ..

قلت للسيدة :
ـ أرجو أن تفتحى نوافذ البيت كلها الآن لتدخل الشمس وإلا سيتكرر الحادث على صورة بشعة ..

ففتحت السيدة فمها .. كانت تود أن تحتج ولكن أمام نظراتى القوية تحركت وفتحت أول نافذة وفتحت أنا وسعاد باقى النوافذ ..

***

وسافرت إلى القاهرة فى عصر اليوم نفسه ولكنى عدت إلى السيدة والفتاة مرة أخرى فى الخميس التالى بعد أن شعرت بأن لمسة الكهرباء مستنى أنا أيضا وأن جذبة سعاد إلى صدرى هى تنبيه قوى من الفتاة المسكينة لأنقذها من هذا العذاب ..

وتزوجنا فى الصيف نفسه ودخلت حرارة الشمس وملأت كل جنبات البيت ..

========================================
نشرت القصة فى مجلة الجيل 3/8/1959 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عذراء ووحش " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================


ليست هناك تعليقات: