الاثنين، 3 مارس 2008


مختارات
قصص من الإسكندرية


بقلم
محمود البدوى


تقديم واختيار
على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى

الناشر
مكتبة مصــر
3 شارع كامل صدقى ــ الفجالة
ت : 5908920

اهداء الكتاب إلى الدكتور عبد العزيز الدسوقى


وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى

>

محمود البدوى


قصة الإهداء

قصة الإهداء

يقول البدوى بذكرياته المنشورة بمجلة الثقافة "لما توقفت مجلة الرسالة بسبب الحرب .. أخذت أنشر فى بعض الصحف اليومية .. وعرفت عاشور عليش وبعده سليمان مظهر وعبد العزيز الدسوقى .. وكان الثلاثة فى جريدة الزمان يشرفون على الصحيفة الأدبية ..

وقد قضيت معهم صحبة طيبة عامرة بالنشاط .. فالثلاثة أدباء قبل أن يكونوا صحفيين ، وخلت نفوسهم من العقد .
ومع أنى كنت أنشر فى الزمان من غير أجر إطلاقا . ولكن وجود هؤلاء فى الصحيفة جعلنى فى أتم حالات الرضى النفسى ، وكنت أحس بوجودى كأديب وكاتب قصة .

وعبد العزيز الدسوقى إنسان نبيل الصفات .. وما شاهدته إلا باسما .. حتى فى أشد ساعاته إنشغالا بالعمل .. باسما ومرحبا .. وهما خصلتان لا نجدهما إلا لمن تربى فى حضن الريف .. ونبع من عراقه وأصاله . وظل مع نهجه وطبعه منذ عرفته .. يسعده أن يعطى أصدقاءه من كرمه وخيره ولا يأخذ ..

ولما رأيت بعد ذلك بسنين أن أهديه مجموعة قصصية كان السبب فى نشرها ، لأنى بطبعى لا أتحرك لناشر .. وجدته قد رفع الإهداء دون أن أعلم.. وحال بينى وبين التعبير بالشكر عن كل ما غمرنى به من معروف ".

* * *

وحينما كنا نبحث فى الأوراق والمستندات التى تركها البدوى لكتابة "سيرة حياته " ، عثرنا على إهداء مكتوب للدكتور عبد العزيز الدسوقى.

وها نحن نشعر بالسعادة بوضع الإهداء بخط يد البدوى على هذه المجموعة، تعبيرا عن شكرنا العميق لهذا الرجل .. الإنسان .

على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى

مقدمة بقلم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى


مقدمـــة

محمود البدوى (1908 ــ 1986) رائد من رواد القصة القصيرة فى مصر ، بدأ ينشر قصصه منذ عام 1933 فى بعض الصحف اليومية والأسبوعية والمجلات الأدبية المتخصصة كالرسالة والأديب والهلال واستمر يكتب حتى وفاته فى 12/2/1986 .

وفى خلال تلك الفترة تناول فى كتاباته الشخصية المهضومة الحق .. المعذبة .. القدرية .. العاجزة عن التحرك ومواجهة صعاب الحياة سواء فى مصر أو فى البلاد الأوربية التى طاف وجال بها .

والقارئ لقصص البدوى يحس بأنه يتغلغل داخل النفس البشرية وينفذ إلى أعماقها ويحرص على إضاءة الشخصية الإنسانية من داخلها عن طريق الاهتمام بالانفعالات النفسية وتأثير الظواهر الخارجية على الأعماق ورد كل ما يجيش فى صدر الإنسان وعقله إلى أسبابه وبواعثه الحقيقية .

وكثير من قصصه يسردها بضمير المتكلم ، وقد اتخذ هذا الطريق منذ نشر قصته "الحب الأول" فى 2/2/1938 ، وهو يكتب عن شخصياته بعد أن يعاشرها طويلا ، يفكر بطريقتها ، وينظر إلى واقع الحياة بنفس منظورها .

ولذلك فإن القارئ لقصص البدوى يلاحظ أن الحوار يتراوح بين اللهجة العامية والعربية الفصحى ، لأنه يكتب من الواقع ويصوره .

ويقول البدوى "لقد كان الحوار فيما مضى يورد باللهجة العامية .. ولكن بعد أن وجدت أن نصف المطبوع من كتبى يوزع فى البلاد العربية ، رأيت أنه من الجحود أو الإنكار أن يقرأ نصف القراء حوارًا لا يفهمونه .

ويمكن أن يعتبر هذا الموقف من اللغة تحويرا عن الواقعية البحتة ، أو الواقعية المطلقة .

على أنى توقفت عن استعمال العامية توقفا تاما حين وجدت أيضا عددًا من المترجمين لقصصى إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية يسألوننى عن معنى كلمات فى الحوار بالعامية .

إلا أن العرب يمثلون بالطبع هدفا أهم من هدف الترجمة ».

* * *

منذ عودة البدوى من رحلته التى زار فيها أوروبا الشرقية عام 1934 وهو يعشق الرحلات فى الداخل والخارج ، فسافر إلى جميع المدن المصرية من أسوان وحتى الإسكندرية وطاف وجال فى أوروبا وآسيا وبعض البلاد العربية فى رحلات ثقافية وغير ثقافية .

وكثر تردده على الإسكندرية فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين ، وأحبها كثيرا لجمالها ونظافتها وقلة سكانها وفتن بها كثيرا ، وعشق النزول فى مياهها ، كما كان يتردد على خطيبته ابنة عمه ضابط البوليس فى المدينة .

* * *

وعن ذكرياته فى مدينة الإسكندرية يقول :

"كان الأستاذ غراب يتردد كثيرا على الإسكندرية لقربها من دمنهور والمسافة قصيرة بكل سبل المواصلات السهلة .. فكان يحضر فى الضحى ويعود إلى دمنهور آخر الليل .

وذات ليلة التقيت به مصادفة فى محطة الرمل بالإسكندرية وكان معه الأستاذ صلاح ذهنى .. وكان الاثنان ينتظران أديبا من الإسكندرية فى مقهى إمبريال وقبل مجىء هذا الأديب عرفانى بأنه يتوق إلى معرفة المستشرقين ويعتز بصداقتهم كالأستاذ تيمور ليخرج أدبه من الدائرة المحلية إلى ما هو أوسع آفاقا وأرحب .

وقال أمين ضاحكا ..
وستلقاه أنت الليلة على أنك مستشرق .. لأنه ما رآك من قبل ولا يعرفك.. وشعرك الأبيض الطويل سيجعله لا يشك قط .. ولا تعترض فنحن نريد أن نقضى ليلة ضاحكة .. وعلى فكرة إنه يكتب القصة أحسن منك .. وسترى..

وكان شعرى طويلا منفوشا .. وبدلتى من قطعتين وكل قطعة بلون .. ومن طراز إنجليزى خالص .. ولا كواء ، ولا تنسيق ولا منديل يطل من الجيب . ولا أناقة فى المظهر جميعه .. وبيدى حقيبة مليئة بالمذكرات والأقلام.. وسأتكم لمدة ساعة أو ساعتين بالعربية الفصحى .

وكنا قد ضحكنا كثيرا قبل المشهد ، فلما تقابلنا مع الأستاذ "سعيد" كان الموقف كله جادًا ، ولا يمكن لمخلوق أن يكتشف فيه مظهرا لتمثيل .

رحب بنا الأستاذ "سعيد" وكان الترحيب بى مضاعفا ، ولاحظت أنه هادئ ، وديع ، وكريم الخلق إلى حد بعيد ، فكدت أندم ، وأكشف أوراقى لولا نظرة صارمة من صلاح ذهنى أرجعتنى إلى ما إتفقنا عليه .

وأخذت أحادثه ، وأثنى على قصصه ، وشكر الأستاذ تيمور الذى كان أول من دلنى عليه بأن بعث إلى بمجموعته القصصية .. وكم عرفنى تيمور بأدباء وقصاصين ، وأرسل إلىّ كتبهم بالبريد دون أن يعرضوهم .. وبذلك استطعت أن أكون فكرة شاملة عن الأدب المصرى .

وإبتهج الأستاذ "سعيد" عندما سمع هذا وطار من الفرح .. وعشانا فى نفس المكان .

ولكن أمين قال له بالعامية التى لا أعرفها .
ــ الأكلة دى ما تنفعش .. ولازم تعزمه فى بيتك .. لأنه عاوز يشوف بيت مصرى .. وإحنا ما لناش بيوت هنا فى الإسكندرية ..

فرد سريعا .
ــ طيب فى البيت يا أخى .. بكره الغدا فى البيت .

وترجموا لى الحديث بالعربية الفصحى .. فاعتذرت وقلت .
ــ إن ميعادى مع تيمور بك غدا فى القاهرة .. وقد عرفته فى رسالتى بيوم وساعة الوصول ..

فقال غراب سريعا .
ــ سنرسل له برقية ونعرفه بأنك ستصل القاهرة بعد غد فى نفس الميعاد .
واسترحنا إلى هذا المخرج .

وفى اليوم التالى كنا فى بيته .. وكان بيته من الفخامة إلى درجة أذهلتنى وجعلتنى أعجب وأتساءل كيف يخرج من هذا العز أديب ؟ وما هى المشاكل التى يمكن أن تحرك وجدانه ..؟

وكان يتحدث بالفرنسية مع أهل بيته .. وقد شعرت بالخجل لأنه إندفع فى حماس إلى وليمة فاخرة ..

وبعد أن فرغنا من الطعام .. وضعت أمامنا صحون ملونة صغيرة ممتلئة بالماء وفى كل صحن وردة .. فتعجل أمين ووضع يده فى الصحن حتى لا نتصور أنه خشاف ونرفعه إلى فمنا .. وكان بارعا وسريع الخاطر فى هذه الحركة .

وفى اليوم الذى حددته لسفرى إلى القاهرة لمقابلة الأستاذ تيمور ، جاء الأستاذ سعيد ، يودعنى فى محطة "مصر" وكان يرافقه غراب وصلاح .

وسألنى "سعيد" بأدب قبل تحرك القطار :
ــ هل ستقابل جميع الأدباء فى القاهرة ..
ــ بالطبع .. ولهذا جئت من بلادى ..
ــ سلامى إذن إلى أستاذنا .. الزيات وأرجو أن تحرص على مقابلة .. توفيق الحكيم .. وإبراهيم المصرى .. وعبد الرحمن الشرقاوى .. وثروت أباظة .. ويحيى حقى .. ونجيب محفوظ .. وعبد الحليم عبد الله .. ويوسف جوهر .. وسعد مكاوى .. ومحمود البدوى إذا وجدته ..

فقال صلاح ذهنى وهو ينفجر من الضحك .. ؟
ــ محمود البدوى ــ ما هو واقف قدامك فى القطر با مغفل .. وضحكنا .. وضحكنا .. وأصبح هذا الأديب الإسكندرى من أعز أصدقائى » .

* * *

رغم أننا قرأنا مجموعاته القصصية التى بلغت 24 كتابا وكتاب آخر لم ينشر حتى الآن بعنوان "المأخوذ" إلا أننا حينما نعاود قراءة قصصه التى بلغت أكثر من 375 قصة ، نجد فيها شيئا جديدا غفلنا عن رؤيته فى المرة السابقة .

ولما كان إنتاجه فى القصة القصيرة يدور حول الإنسان فى جميع أنحاء مصر وفى البلدان الأجنبية التى زارها منذ رحلته الأولى إلى أوربا الشرقية ويعتقد أنه صاحب رسالة يجب أن يؤديها ، وأن وظيفة الأدب هى التغيير إلى الأفضل وتغيير الوجه القبيح فى الحياة إلى الوجه الجميل .

فقد قمنا بتصنيف أعماله ، وحصر قصصه التى استوحاها أثناء تجواله وإقامته فى البنسيونات واللوكاندات والغرف المفروشة بالإسكندرية . واخترنا البعض منها ، ليس لأنها خير ما كتب ، بل لأنها نموذجا تنوب عن باقى القصص فى إعطاء صورة صادقة لأفكاره ونظرته للأمور وفلسفته فى الحياة .

على عبد اللطيف ، ليلى محمود البدوى
مصر الجديدة 5/10/2002

الغزال

الغزال


قصة محمود البدوى


أخذت ريح الخريف تهب خفيفة ندية ، تداعب غصون الأشجار الصغيرة التى تحيط بالمحطة ، وترفع أطراف الفساتين الحريرية لكواعب من الحسان تناثرن كالورود الجميلة على رصيف محطة « سيدى جابر » فى انتظار القطار ..

وتأخر القطار عن ميعاده مدة طويلة ، فظهر القلق على وجوه الركاب ، وكانت « سميرة » أشدهم قلقا لأنها تتعجل السفر إلى القاهرة .. فقد افزعتها البرقية التى أنبأتها بمرض والدتها ، ومزقت أعصابها ، حتى وإن لم تشر إلى خطورة المرض ، ولكن مجرد ورودها فيه الكفاية لاضطرابها ..

وكان « خليل » يود أن يرافق زوجته لولا أنه يقوم فى هذه الليلة بنوبة عمل ليس فى أمكانه التخلف عنها .. ولم يجد أمامه الوقت الكافى لأن يعتذر أو يأتى بالبديل ..

وقبل وصول القطار لمحت « سميرة » صديقتها « ثريا » واقفة مع سيدة أكبر منها سنا على نفس الرصيف .. فأسرعت كل منهما تسلم على الاخرى فى حرارة وشوق ..

وكانت « ثريا » تودع خالتها المسافرة إلى القاهرة أيضا .. فانشرحت « سميرة » لأنها وجدت رفيقة لها فى السفر .. والتقت بصديقتها القديمة « ثريا » مصادفة على المحطة بعد انقطاع طويل الأمد ..

ووقفن يتبادلن التحية ويتحدثن عن تعب السفر وتأخر القطارات حتى وهى قادمة من « المخزن » مع أن موسم الصيف قد انتهى وحركة السفر أصبحت خفيفة ..

وأخيرا دخل القطار الكئيب المحطة وصعد إليه المسافرون .. وبعد أن تحرك وصفر .. شعر خليل أنه هو وثريا وحدهما على الرصيف الطويل .. وقد خلت المحطة من المودعين جميعا ..

وابتسما بعد أن أحسا بالموقف .. ولكنهما مع ذلك ظلا فى مكانهما على الرصيف صامتين دون أدنى حركة ..

وأخيرا فتح خليل فمه وقال بصوت خافت وهو يشير بيده :
ـ تفضلى ..
وخرجا من المحطة ..

وكانت الشمس مصفرة ، وضوؤها الغارب ينعكس فى نعومة على زجاج النوافذ .. والهواء الرقيق يداعب وجه « ثريا » الوردى فيفتح ثغرها قليلا ويحرك خصلات شعرها بمثل الرقة التى فيها ..

وسألها خليل بعد أن جاوزا الميدان ، وعيناه إلى أهداب عينيها وقد بدأت تطرف من شعاع الشمس ..
ــ إلى أين يا ثريا هانم .. ؟ بيتكم فى « جليم » .. ؟
ــ أبدا .. فى مصطفى باشا ..
ــ اتسمحين لى بأن أوصلك .. ؟
ــ أين ركنت العربة .. ؟
ــ سنركب تاكسى ..
ــ لا .. شكرا .. أنا ذاهبة إلى محطة « الرمل » اشترى شيئا لماما ..
ــ وأنا أيضا ذاهب إلى هناك ..
ــ اذن هيا ..
وأشار إلى تاكسى ..

فاعترضت بسرعة :
ــ لا موجب له .. سنركب الترام .. كما اعتدنا ..

وركبا ترام « النصر » ووجد مكانا خاليا فى الدرجة الأولى فأجلسها فيه ، ووقف بجانبها يتأملها فى صمت ..

كانت ترتدى فستانا بنيا من قطعة واحدة ، يحتضن قوامها الرشيق ، ويبرز فى جلستها المستقيمة جمال ساقيها ، وامتلاء فخذيها ورقة خصرها واستدارة كتفيها ..

وكان وجهها الطويل أبيض خالص البياض ، فى نعومة كأنه ما وقعت عليه الشمس ولا غطس فى ماء البحر ..

وكان ظل ابتسامة يزحف على وجهها بين لحظة وأخرى ، ويكسر فى فتحة عينيها المتألقتين فى سواد ممزوج بالاخضرار الخفيف ، الذى يذهب ويجىء ، كلما تفتحت النفس ، وجاشت العاطفة ..

كان ظل هذه الابتسامة يغطى وجهها كله ، وهى تراه لا يتحمس للجلوس كلما خلا مقعد فى طرف العربة بعيدا عن مكانها ..

وظل يتباطأ وهو جامد فى موقفه ، فيتيح الفرصة لغيره ليشغل المقعد فى لهفة جعلته يضحك ..

لقد أصبح الناس يتصارعون على أتفه الأشياء طرا فى الحياة .. وبرزت عيونهم وأنانيتهم من اللهفة على هذه الصغائر .. فلا أحد يبدى حركة فيها تأدب ، ولا يقوم رجل لسيدة .. ولا شاب لشيخ ..

لقد طحنتهم الحياة فى دوامتها .. فبرزت أنانيتهم ، وظهر جشعهم .. وكل ما فى نفوسهم من صغار ..

وظل « خليل » فى مكانه واقفا ، وهذه الخواطر تدور فى رأسه .. وتكاد يده اليمنى تلمس كتف « ثريا » وتشعر بنعومة بشرتها تحت الثوب المخملى ..

وأخذ يتأملها فى سكون ويملأ عينيه من كل ما فيها من حسن .. وكأنه يلامس بيده جبينها وعينيها وخديها وشفتيها .. ولم تكن فى تقديره .. أكبر من زوجته إلا بسنتين على الأكثر ، ما دامتا كانتا زميلتين فى نفس الكلية ، وتخرجتا فى عام واحد ..

وسمع صوتها وهو يسبح فى أحلامه :
ــ أجلس هناك مقعد .. قبل أن يأخذوه ..
وضحكت ..
ــ لقد وصلنا الشاطبى ..
ــ أمامنا .. محطات كثيرة .. أجلس ..
فطاوعها وجلس ..

وكانت اشعة الشمس قد سقطت من النافذة القريبة على عينيها ، فأغمضتهما .. وأبعدت وجهها بحركة خفيفة ، وأزاحت خصلة شعرها وامتلأ وجهها بالسكون ..

ومن خلال هزة للترام تحركت فيها أكتاف الركاب ، أشرق وجهها فى ابتسامة عذبة .. وظلت الابتسامة ترف حتى دخل الترام محطة الرمل ..

***

وعلى الرغم من أنه قرأ فى عينيها الائتناس بصحبته ، ولكنه سلم عليها فى شارع « سعد زغلول » وافترقا ليتركها على حريتها .. ولأنه لم يكن يستريح أبدا إلى مرافقة النساء فى جولة تسويق .. فقد كان يعانى الكرب من ترددهن أمام الأشياء المعروضة ..

ومع أن صحبته « لثريا » كانت لمدة وجيزة فإنه أحس بالراحة لها .. وبالانتعاش والحيوية .. فمن خلال فترة لم تتعد رحلة الترام من محطة « سيدى جابر » إلى محطة الرمل .. أحس بدم جديد يتدفق فى شرايينه كما أحس بالبهجة ..

فقد كانت حياته مع زوجته فى السنتين الأخيرتين يشوبها النكد والملل .. وكان كل منهما قد أخذ يحس بالفراغ وبموات العواطف .. وكلما حاول خليل أن يحرك هذا الجمود ، ويبعث الحياة والحرارة فى الجو المحيط بهما .. أخفق فى عذاب ..

فقد كانت زوجته مشغولة دائما بزيارة أقاربها العديدين ومجاملتهم فى الجنائز والافراح .. وإهمال شئونه .. وحاجات بيتها .. فلم يأسف كثيرا على سفرها وان أسف على مرض والدتها ..

ولذلك أحس فى رفقته القصيرة « لثريا » بهزة فى نفسه .. تفتحت لها مشاعره .. وجال جولة فى المدينة ثم رجع واتخذ طريق البحر وجلس من وراء الزجاج فى « كافيه دى لابيه » على الكورنيش ..

وكان الجو صحوا ممتعا .. والبحر يرقص موجه ، والمصابيح الكابية الضوء ، قد أخذت تتلألأ فى المنازل والشوارع ..

وعادت صورة « ثريا » إلى ذهنه .. عادت وهو معها فى الترام وفى الشارع .. فى جلستها الناعمة .. وفى وقفته المتأنية .. وفى السلام عليها سريعا ثم فراقها ..

وأخذ يلوم نفسه لأنه تركها هكذا ولم يرافقها فى جولاتها إلى النهاية ، ولم يعرف عنوانها ولا محل عملها .. ولا اشتم من حديثها مدى علاقتها بزوجته ..

ثم خفف من حدة اللوم .. لما استقر رأيه أخيرا على أن ما فعله فى أول لقاء هو عين الصواب ..

ومع كل التبريرات التى استراح إليها ، وهو جالس فى المقهى ، فإنه عندما ذهب إلى بيته وأحس بالوحدة ، رجع يلوم نفسه أشد اللوم على خجله وسوء تصرفه ..

***

وكانت « سميرة » قد حدثت خليل وهى مسافرة ، بأنها سترجع فى مدة لا تتجاوز الأسبوع .. وتتصل به فى الصباح فى مقر عمله فى الشركة أو فى المساء عند بعض أقاربه الذين فى بيتهم تليفون .. ان تعذر الاتصال فى مقر العمل ..

فلما لم تفعل ذلك حادثها تليفونيا فعلم أن والدتها فى حالة خطرة .. وكانت تتحدث وهى تشرق بعبراتها .. فسافر فى الصباح التالى ليعود المريضة .. ورجع وحده إلى الإسكندرية بعد أن لمس الحالة عن قرب ..

***

وللمرة الأولى فى حياته الزوجية التى بلغت خمس سنوات .. بدأ يعيش وحيدا فى البيت ينظفه بيده ويأكل فى الخارج لأنه لم يكن فى بيتهم خادم .. وكان يضيق ذرعا بإعداد أبسط أنواع الطعام ..

فأخذ يقضى الفراغ فى الجلوس على المقاهى وارتياد الملاهى .. وأكثر من التردد على السينما .. حتى لم تكن تفوته رواية واحدة ..

وفى أمسية من أمسيات الخميس شاهد « ثريا » جالسة أمامه فى الشرفة بسينما « راديو » ومعها رفيقة فى مثل سنها ..

ولم يحادثها أو يجعلها تشعر بوجوده إلى أن انتهى عرض الفيلم .. وظل بعيدا عنها وهى تهبط السلم إلى ردهة السينما وهو يغالب عواطفه ..

وكما يحدث فى مثل هذه المواقف ، بسبب لا يدرك تعليله أحد على الأطلاق استدارت « ثريا » وبصرت به عن قرب وفاض وجهها بالسرور ، وانتحت جانبا تنتظر لتفسح المجال لطابور الخارجين .. ولما رأى ذلك منها أسرع إليها مرحبا .. وقدمت له صديقتها فى عبارة فيها ذكاء ولباقة ، وخرجوا ثلاثتهم إلى الشارع ..

***

وكان الجو جميلا ويغرى بالتنزه .. والمدينة تسبح فى الأنوار الزرقاء الخفيفة ..

وساروا على أقدامهم متمهلين مختارين الشوارع الجانبية التى تقل فيها الحركة فى مثل هذه الساعة ..

ثم اتجهوا إلى محطة الرمل .. وهناك أكلوا أكلة خفيفة وتحدثوا فى مرح .. وكانت « ثريا » منطلقة ، ووجنتاها تتوردان ، كلما سمعت نكته لا تستطيع أن تطلق الضحكة المدوية لها فى مكان عام .. أما صاحبتها فكانت تكتفى بالبسمة العريضة دون أن تعلق بحرف ..
وركبوا جميعا ترام الرمل إلى بيوتهم ..

وكان يتحتم على « خليل » فى هذا الليل وفى جو الحرب والغارات أن يرافق « ثريا » إلى منزلها بعد أن نزلت صديقتها فى محطة الابراهيمية ..

وعرف أنها تقيم فى الجانب الشرقى من حى مصطفى باشا .. فسارا الهوينى بعد أن نزلا من الترام وتخطيا طريق الحرية ..

وكان يشعر بالنشوة ، ويود أن يمتد الطريق الضيق الذى أخذ يلتوى فى صعود ، إلى ما لا نهاية ويصبح كبيت جحا يدوران فيه ولا يخرجان منه أبدا ..

ولم يشعر من فرط انتعاشه بلسعة البرد الخفيفة التى أخذت تسرى فى الجو ..

وكانت هى لا تزال ترتدى ملابس الصيف .. فأشفق عليها من البرودة .. ولكنها كانت منتعشة مثله ودافئة ..

وأحس بكل مشاعره وجوارح قلبه بأنها مستريحة إلى صحبته .. وأبدت أسفها على غياب « سميرة » ومرض والدتها فى نغمة حزينة صادقة ..

وبلغا البيت ، وكان من طابقين فى صف من الفيلات المبنية على طراز متقابل فى الشكل والارتفاع .. وفى حى هادىء يبعد جدا عن حركة الترام والاتوبيس ..
وصعد معها حتى الطابق الثانى الذى تسكنه ..

وكانت تود أن تجعله يدخل ويسلم على والدتها .. ولكنه اعتذر ..

وعندما خرج إلى الطريق مرة أخرى ، أحس ببهجة جعلته يسرع فى سيره وهو يواجه رياح الليل القوية المحملة بهواء البحر ..

***

وفى صباح السبت جاءته برقية بوفاة المريضة .. وعزاه زملاؤه فى الشركة وسهلوا له الحصول على الإجازة سريعا ليحضر الدفن .. فهى أم زوجته ولابد من أن يسير فى الجنازة ..

واستقبلته زوجته بالثوب الأسود والعينين المتورمتين من البكاء ..

ومكث فى القاهرة ثلاث ليال .. نام فيها وحيدا فى غرفة خصصت له .. ولم تجرؤ زوجته أمام أخواتها وقريباتها على النوم فى فراشه .. وأمهن ميته .. وغاظه ذلك وفجر كراهيته لكل هذه التقاليد البالية ..

وكانت تقرأ فى عينيه الاشتياق والرغبة .. ولكنها جبنت وبعدت وتركته فى عذاب ..

***

ورجع إلى الإسكندرية وحده وترك زوجته تسوى أمور الميراث مع أخواتها وتحضر الخميس مع أهلها تزور فيه المقبرة .. ثم الخميس الذى بعده .. وقبل ذلك لا تستطيع ترك الأسرة ..

ووافقها خليل على رغبتها ووعدها بأن يحضر أول « خميس » .. ويعود بها فى الخميس التالى إلى الإسكندرية ..

***

ورجع إلى الإسكندرية فى قطار الليل .. وفى الصباح اتصلت به « ثريا » وهو فى مكتبه تعزيه .. ولم يدر كيف عرفت تليفونه .. ثم خمن أنها عرفته من زوجته .. وكان بينهما الحديث ..

وحدثته أنها اتصلت بزوجته تليفونيا لتعتذر لها عن سبب عدم سفرها للقاهرة لتعزى لأنها لا تستطيع ترك أمها وحدها .. وأنها اتفقت مع سميرة أن ترسل له الخادمة .. لتنظف له البيت من حين إلى حين .. لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك . وسميرة لا تحب أن تدخل الأرجل الغريبة الشقة .. فى مدة غيابها عن البيت .. وسترسل له الشغالة اليوم فى الساعة الخامسة ..
وحاول أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ..

وجاءت الشغالة فعلا ونظفت الشقة .. ورفضت أن تتناول منه أى هبة ..

وأصبحت تجىء كل يومين وأعطاها المفتاح لتجىء فى الوقت الذى تختاره ويكون موافقا لها .. وسهلت له الكثير من أمور الطعام التى كان يشكو ويتضايق منها .. وكان يود أن يسألها عن « ثريا » ليعرف القليل عنها .. ولكن لسانه لم يطاوعه أن يستقصى ذلك من خادم ..

وعندما كانت خادمة « ثريا » تروح وتجىء فى بيته وتدخل من غرفة إلى غرفة ..

كان يتصور أن سيدتها معها .. وأنه يسمع صوتها ، وهى تناديها وتطلب منها فعل هذا الشىء وترك ذاك .. وأنه يسمع وقع اقدامها الخفيفة فى الصالة..

وعجب لكل هذه التخيلات ولم يجد فى نفسه التعليل لها .. فأنه لم يفكر مطلقا فى أن يوجد أية علاقة بينه وبين « ثريا » أكثر من التعارف الذى حدث فى المحطة .. وأكثر من اللقاء العابر الذى حدث بعد ذلك فى السينما ..

وظلت « ثريا » فى كل هذه الحالات بالنسبة له صديقة لزوجته أو زميلة لها فى الدراسة على الأكثر ..

ولكن لماذا كل هذا التفكير فيها ؟ ألأنها وحيدة فى الإسكندرية مثله .. ؟ وغير متزوجة كما تصور .. ؟

***

وحدث ذات مرة وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء .. أن ترك نفسه مع سير الترام ونزل فى محطة مصطفى باشا ..

وسار فى طريق الحرية مقبلا ومدبرا أكثر من ثلث الساعة .. ثم اتجه وهو مسلوب الإرادة إلى الحى الذى فيه بيتها ..

ومضى إلى الشارع متماسكا أولا متحكما فى أعصابه ، ثم بدأ يشعر بالاضطراب .. وبتغير ضربات قلبه .. ودارت فى رأسه الخواطر وأحلام أشبه بأحلام المراهقين .. ثم أحس بالعرق يتفصد على جبينه .. وألفى من الحماقة وهو يقترب من البيت أن يطرق بابها ..

ما الذى ستقوله هى أو تقوله أمها لو واجهها فى مثل هذه الساعة .. ؟ وبأى علة سيتعلل .. ؟

وارتد فى الشارع الملتوى الصامت القليل الضوء ، وهو يشعر بجلجلة فى رأسه .. وان رءوسًا قبيحة أطلت من النوافذ ، وأصبحت تضحك عليه بصوت مدو ..

وعندما رجع إلى بيته ونام فى فراشه ، أحس بأتعس ليلة قضاها فى حياته..

***

وفى عصر يوم جاءت خادمة « ثريا » لتنظف البيت .. وجدته جالسا فى الصالة فحدثته قبل أن تأخذ أنفاسها من صعود السلم أن ستها « ثريا » كانت راكبة الترام معها ..

ونزلت فى الإبراهيمية لتذهب إلى مكتب التلغراف القريب من هناك ولما سألها « خليل » عن السبب .. عرف أنها ذاهبة لترسل برقية لاخيها الدكتور فى السويس الذى لم يتصل بهم منذ الغارة على السويس ..

ولم يكن « خليل » يعرف قط أن لها أخا طبيبا وهو الآن فى مستشفى السويس .. كما حدثته الخادمة ، وأنه كان دائم الاتصال بأمه وأخته ويجىء فى الشهر مرة ومرتين ، ولكنه منذ الغارة العنيفة التى حدثت منذ أربعة أيام على مدينتى السويس وحى الأربعين لم يتصل بهما ولذلك اضطربتا وقضيا الليل فى بكاء ..

وتأثر « خليل » لما سمعه من الخادمة ووجد من واجبه كرجل أن يرتدى ملابسه على التو ويخرج ليتصل بهما تليفونيا ويطمئنهما ..

ولما تناول السماعة كان صوت « ثريا » .. غير طبيعى رغم أنها حاولت أن تكتم حزنها لما سمعت صوته .. وبعد حديث قصير عن اخيها .. ومحاولة اطمئنانها .. استأذنها فى زيارتهما فى البيت ليطمئن والدتها .. فرحبت بالزيارة ..
ووضع السماعة وهو يشعر براحة كبرى ..

***

ولما دخل البيت استقبلته « ثريا » مرحبة .. ولكن البكاء كان لا يزال أثره فى عينيها ..

وجاءت الأم وهى سيدة نحيلة فوق الخمسين وكانت ترتدى ثوبا أسود وعلى وجهها الاكتئاب وسلمت عليه بيد ناعمة .. وعيناها الخضراوان تحدقان فيه جيدا ، كأنها تقارن بين الصورة التى كونتها عنه من حديثها مع ثريا ، وبين الحقيقة التى أمامها ..

وبدت فى فستانها الأسود عصرية مع وقار سنها ، فقد كانت مقصوصة الشعر متأنقة الزى فى انسجام رائع والحذاء فى لون الفستان .. والزينة خفيفة ولكنها بادية على الشفتين الحمراوين والخدين الاسيلين ...

وكانت عيناها لازالتا تتألقان بالبريق والسواد المائل إلى الاخضرار .. والعدسة الفاحصة فى استرخاء ، يطل منها الحنان كله ..

وقد رأى أنها كانت جميلة فى شبابها بل فتنة بين النساء ..

وكان البيت منسقا نظيفا .. وأثاثه يدل على ذوق عصرى .. ولم يكن يصل إلى حد الفخامة .. ولكنه كان من طراز عصرى جميل بالغ حد الروعة فى التنسيق ..

سر جدًا لأنه دخل بيتا مصريا هادئا لم يسمع فيه جلبة الأطفال وصياحهم .. ولا الفوضى التى تطالعه كلما زار بيت حماته فى القاهرة ..

وشرب القهوة وأخذ بكل الوسائل يطمئن الأم .. ولكنها لم تطمئن ..

قال لها « خليل » بلهجة قاطعة :
ــ إذن سأسافر إلى السويس .. غدا صباحا .. واجعلك تطمئنين ..

وقالت ثريا ...
ــ وسأسافر معك ...

وقالت الأم ...
ــ سنسافر نحن الثلاثة ..

وقالت ثريا ...
ــ لا داعى لتعبك يا ماما ..
ــ أبدأ .. لابد أن أراه .. هناك ...

وسألت ثريا فى رقة .. وكان قد فاتها شىء لم تلاحظه أولا ...
ــ وكيف تترك عملك .. ؟ ربما لا يسمحون لك بأجازة .. ؟
ــ سأسافر مهما كانت الظروف ..

فردت الأم :
ــ وتتعب نفسك معنا .. با ابنى .. ربنا يخليك ..
ــ هذا .. أقل واجب ...

واتفقوا على اللقاء فى الصباح فى محطة سيدى جابر .. ليأخذوا أول قطار .. ديزل الساعة السادسة صباحا ..

***

وفى الصباح رأى « ثريا » واقفة وحدها خارج المحطة تنتظره باسمة .. وسر جدا وأدرك أن أمها عدلت عن السفر ..

ولما اقترب منها وضغط على يدها انفجرت ضاحكة ..
ــ ما الذى جرى ... ؟
ــ إبراهيم جاء بالليل .. ونائم فى البيت الآن ...
تقصد أخاها الطبيب ...

فقال خليل بمرح :
ــ الحمد للّه ...
واستطردت ثريا :
ــ وجئت مبكرة قبلك حتى لا تقطع التذاكر ..
ــ هكذا قبل الشمس ...
ــ لم أذق للنوم طعما ...
ــ طبعا .. من الفرح ...
ــ الواقع أنا فرحانة .. ومتضايقة .. فرحانة لقدومه ولنطمئن .. ومتضايقة لأنى كنت أود أن أسافر معك ..

ونظرت إليه بعينيها المتألقتين فى ضوء الصباح الرمادى ..

فأمسك بيدها ودار فى الميدان الفسيح وهو شاعر بقلبه يخفق لأول مرة فى وجيب متصل وبأن جسمه قد خف حتى يكاد يطير ..

وبدأت الشمس تغمر المكان فى هذه اللحظة ..

***

وعند محطة الترام سألها :
ــ أراجعة إلى البيت .. ؟
ــ طبعا .. فأمامى ساعتان على البنك ..
ــ البنك فى محطة الرمل .. ؟
ــ فى شارع شريف ...
ــ جميل .. وأنا قريب للبنك فى شارع سيزوستريس ...
ــ حقا ... ما أجمل هذا ...
ولما جاء الترام .. ركب معها ...

فقالت بدلال .. وعيناها تتطلعان إليه :
ــ لماذا التعب ... اذهب إلى عملك ...
ــ أمامى ساعتان ...
ــ روح .. واكمل نومك ...
ــ أشعر براحة أكثر .. وأنا معك ..

واحمر وجهها قليلا ، وبدت فى عينيها رقة ساحرة .. وحنان دافق .. ونكست رأسها .. لتخفى كل الانفعالات التى تبدو على وجه العذراء وهى تسمع كلمات الاطراء الخفيفة ..

ولما نزل من الترام فى محطة مصطفى باشا .. رافقها حتى اقتربا من باب بيتها ..

وكان الصباح جميلا مشرقا ، وخيوط الشمس الذهبية اخذت اشعتها تسطع على زجاج النوافذ .. والشوارع بدت خالية من المارة ، ومن حركة السيارات الثقيلة .. فتجعل المرء يحس بالراحة ، وهو يتنفس ، ويشعر بكيانه ووجوده كإنسان يميل بالفطرة إلى السكون ..

ولما أمسك يدها مسلما وعاد وحيدا فى الشارع الأسفلت الضيق المائل إلى الالتواء والممعن فى السكون .. لم يكن فى الطريق الخالى أحد سواه ..

وكان لا يزال فى كيانه الإحساس بوجودها إلى جانبه .. وقع خطواتها الخفيفة .. ونغمة صوتها الناعمة .. وضحكاتها التى لها رنين الفضة .. واللفتة الجانبية وهى تتطلع إلى وجهه كلما أسمعها كلاما تود أن تملأ به جوانح قلبها . وترى حركة الشفتين وهما تنطقان به .. وكانت تلك هى عادتها المحببة إلى نفسه ..

***

وفى صباح اليوم التالى بعد وصوله إلى المكتب مباشرة سمع صوتها فى التليفون .. وحملت إليه شكر والدتها على ما كان قد اعتزمه من السفر واهتمامه بأمر أخيها ..

وسألها عنه فقالت له بأنه خرج مع والدتها لتسوق بعض الحاجات قبل سفره ..
وسأل « خليل » عن موعد خروجها من البنك ..

وتقابلا فى الساعة الثانية والربع عند حلوانى منعزل فى شارع شريف .. ومكثا عدة دقائق لم يشعرا فيها بالزمن ولا بالوجوه التى حولهما ..

وقال لها :
ــ أننى لم أشعر قط بالوحشة لسفر سميرة بسببك ..
ــ ولكنها وحشتنى .. لقد طال غيابها .. متى ستسافر لتعود بها ..
ــ ربما جاءت وحدها .. يوم الخميس .. لقد تعبت من السفر .. ومن المجاملات فى الجنائز ..
ــ ولكنها والدتها ..
ــ أعرف هذا .. ولكن ما الذى يفعله الندب والبكاء واللطم .. والخميس.. والأربعين . هل يرد ميتا .. ؟ أن حياتها كلها جنائز وقد ضقت ذرعا بهذا ..
ــ أن أخى إبراهيم مثلك تماما .. يكره هذه التقاليد .. ولكنها زوجتك .. والأحسن أن تذهب إليها .. وتمسح دموعها .. وتعود معك ..
ــ أهذه رغبتك .. ؟
ــ طبعا ..
ــ سأنفذها أذن ارضاء لك ..
وضحكت ..

وافترقا على لقاء فى مساء الاثنين .. بعد سفر أخيها إلى السويس ، لأنها تلازمه فى أجازته القصيرة وتنافس والدتها فى خدمته وتطويقه بالحنان ..

***

وقد التقيا فى كازينو « ماى فير » وجاءت مع غروب الشمس فى جوف البحر .. وكأنها شمس أخرى تطل على الكون .. أو كأنها القمر الذى يطلع بعد غروب الشمس .. ولم تكن الليلة مقمرة .. ولكن قمرها كان يشع على البحر الهائج والجمال المحيط ..

وجلسا وراء النافذة الزجاجية العريضة متقابلين ، وعيونهما تحدق واللسانان اخرسان ..

وشعر فى هذه اللحظة بأنه أحبها .. وأنها تبادله الحب دون أن تنطق بكلمة ..

كانت عيونهما تتحدث ، وشفاههما وكل جوارحهما تنطق .. وكأنهما كانا فى عناق متصل ثم انفصلا وراحا فى دوامة الخدر الذى يبلد الحواس بعد هذه القبلة .. ثم استفاقا وأحسا بكل ما حولهما بالبحر.. والليل .. والعشاق القليلين الجالسين مثلهما فى سكون يتهامسون ..

وأخذا يتحدثان الأحاديث المألوفة عن الجو .. والحرب والعمل .. ثم أخذت « ثريا » تحدثه عن خصوصيات حياتها بلسان منطلق .. أحس معه بثقتها المطلقة فيه ..

حدثته بأنها تزوجت منذ أربع سنوات ، وهى لا تزال تدرس فى الجامعة .. من قريب لها .. رحل إلى الخارج ليكمل دراسته ، ولم تستطع هى السفر معه فى وقتها لأنها كانت فى مرحلة البكالوريوس ..

وبعد سفره بعام واحد ، فى اللحظة التى انهت هى فيها دراستها الجامعية .. واستعدت للسفر .. جاءها نعيه .. وعاد إليها فى صندوق ..

وانتابها حزن قاتل .. فهى تزوجته فى نظر الناس ولكنها لم تتزوجه فى الحقيقة .. ولم تحس بالسعادة الزوجية ساعة واحدة ..

وكانت ملامح وجهها جامدة ، وهى تقص عليه هذا ، وأدرك أنها بكت كثيرا حتى جفت دموعها ..
وأمسك بيدها فصمتت ..

وجاشت ذكرياتها الحزينة دفعة واحدة .. فرأى « خليل » أن يغير مجرى الحديث .. وأن يخرجا من المحل ويتمشا على البحر .. فقد أحس بحاجته إلى الحركة وحاجتها بعد هذه الذكرى الحزينة ..

وعلى البحر اختار الطريق الهابط .. وسارا متشابكين بالأيدى على ضوء المصابيح الخافتة ، وعن يسارهما السور العالى يقيهما من العيون وعن يمينهما البحر الذى تحولت زرقته إلى اللون الأحمر القانى كلما علا موجه وصمت ..

وكانت الريح الباردة المحملة بأنفاس البحر ورائحة الطحلب .. تمر على وجهيهما وتحرك شعرها .. وتسدله على عينيها .. فمد خليل يده فى رقة وأزاحه عن جبينها .. فتهلل وجهها .. وكانت هذه اللمسة الناعمة ، وهذه اللفتة الضاحكة من عينيها تحتم عليه أن يختمها بقبلة .. ولكنه لم يفعل ..

ولا يدرى أكان ذلك جبنا منه أم زيادة أحترام لها وهما فى طريق عام .. مهما كان هذا الطريق خاليا وشاحب الضوء ..

ولما بلغ التقاطع .. كان يرغب فى أن ينحرف إلى اليسار ويسير فى الشارع الواسع المؤدى إلى سيدى جابر .. ولكن « ثريا » رأت أن يواصلا السير على الكورنيش حتى كليوباترا ..

وكان الليل الحالم يلفهما .. والبحر كأن موجاته تغنى لهما وحدهما أعذب الألحان ..

واخترقا حى كليوباترا إلى شريط الترام .. الحى الذى كان صخابا فى الصيف ويعج بالمصيفين وبالحركة الدافقة يموت الآن فى الخريف .. وفى الساعة التاسعة ليلا ..

وعلى الباب وهى تدق الجرس على والدتها تركها .. لم يشأ أن يتركها وحدها فى الليل شبرا واحدا .. أحس بأنه مكلف بحمايتها وابعادها من كل شر ..

***

وفى الساعة الثالثة من اليوم التالى دخلا السينما .. وقالت لوالدتها انها ستواصل العمل فى البنك لتنجز أوراقا متأخرة ..

وكانت عواطفها لا تزال مشتعلة اشتعال أبطال الفيلم ..

وجلسا متلاصقين يحسان بحرارة جسميهما ، وحرارة انفاسهما وضربات قلبيهما ..

وكان يود أن يميل عليها بقبلة .. ولكن منعه الجوار وازدحام البلكون ، والعيون التى وراءهما وبجانبهما .. وقد كره الجمهور .. لأول مرة .. وكرهه بعنف ..

وبعد السينما شربا الشاى فى « باستوريدس » ثم ركبا الترام إلى البيت ..

***

وفى عصر يوم من أيام الاثنين وكان قد تغدى خارج البيت .. أحس وهو داخل بحركة فى المطبخ ، فأدرك أن خادمة ثريا تقوم ببعض أعمالها .. كالعادة .. فتركها فى عملها .. ودخل غرفته ليستريح ..

وبعد أن خلع بدلته.. وارتدى بيجامته .. مشى إلى دورة المياه ليغسل وجهه .. وفى الردهة الضيقة بصر " بثريا" بلحمها ودمها خارجة من المطبخ .. ففتح فمه دهشا .. وتبادرت إلى ذهنه بأنها جاءت ترافق الخادمة .. عناية به وببيته ..

ولكنها نحت عنه هذا الخاطر بقولها :
ــ سنية سافرت تزور والدتها فى كوم حمادة منذ يومين .. ولازم البيت يتنظف .. فجئت أنا ..
وكان يود أن يقبل فمها الذى نطق بهذه الألفاظ ..
ــ شكرا .. هذا كثير .. اشعر بخجل لا حد له ..
ــ لا داعى لهذا كله .. هل تغديت .. ؟
ــ أجل .. وأنت .. ؟
ــ نعم تغديت .. وسأصنع لك قهوة ..

وعادت إلى المطبخ .. وأدرك أنه يلبس البيجامة أمامها وهذا لا يليق .. وفكر أن يخلعها .. ويعود إلى لبس البدلة ..

وجاءت بصينية القهوة .. ووضعتها فى الصالة فى اللحظة التى رأته يخلع سترة البيجامة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سألبس البدلة ..
ــ ولماذا التعب .. ؟ خذ راحتك ..
ــ لا .. هذا .. لا يليق ..

ورأته مصرا .. ومشت إليه وأمسكت سترة البيجامة قبل أن يخلعها .. ولامست يده ذراعها .. فأمسك بها ليمنعها من منعه .. ووجدها ملاصقة به بكل جمالها وكل ما فى جسمها اللدن من فتنة .. فشدها إليه .. وأخذ يقبلها فى شفتيها وعينيها ونحرها بعنف .. ونسيت نفسها لحظات .. وأخذت تبادله القبلات بحرارة .. واستراحت مغلقة عينيها .. فأخذ فى رقة يفك أزرار ثوبها، وهى واقفة ، فأمسكت بيده ، وفتحت عينيها فى توسل ..

وحاول أن يعانقها بعنف وأن يجرها إلى الفراش .. فوجدها تقاومه بشدة ..

وسألها والعرق يتفصد على جبينه :
ــ هل تفكرين فى سميرة .. يا ثريا .. كصديقة لك .. ؟
ــ أبدا .. ما فكرت فى هذا .. وأنما أفكر فى شىء آخر .. رهيب ..
ــ ماذا .. ؟
ــ أفكر فى أخى .. إبراهيم ..

وأستغرب .. وسألها :
ــ وما علاقته بالمسألة .. ؟
ــ لو فعلت ما ترغب فيه .. سيموت .. أن حياته مقرونة بطهرى ..
ــ وكيف تشغلين رأسك بهذه الأفكار .. ؟
ــ أنها مسيطرة على تماما .. وهى أحاسيس صادقة .. وقد جربتها ..
ــ جربتها .. ؟ !
ــ أجل .. عندما كان توفيق فى الخارج .. وقد عاد بعدها فى صندوق ..

وغشيهما الضباب .. فتركها وأخذ يروح ويجىء فى الصالة .. وهو فى أشد حالات العذاب ، وهى جالسة منكسة الرأس صامتة .. وفى عينيها دموع لم تحبسها هذه المرة ..

================================
نشرت القصة بمجلة المصور فى 7/7/1972 وأعيد نشرها بمجموعة " عودة الابن الضال " وبمجموعة قصص من الإسكندرية من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002

=================================


الغزال

الغزال

قصة محمود البدوى


أخذت ريح الخريف تهب خفيفة ندية ، تداعب غصون الأشجار الصغيرة التى تحيط بالمحطة ، وترفع أطراف الفساتين الحريرية لكواعب من الحسان تناثرن كالورود الجميلة على رصيف محطة « سيدى جابر » فى انتظار القطار ..

وتأخر القطار عن ميعاده مدة طويلة ، فظهر القلق على وجوه الركاب ، وكانت « سميرة » أشدهم قلقا لأنها تتعجل السفر إلى القاهرة .. فقد افزعتها البرقية التى أنبأتها بمرض والدتها ، ومزقت أعصابها ، حتى وإن لم تشر إلى خطورة المرض ، ولكن مجرد ورودها فيه الكفاية لاضطرابها ..

وكان « خليل » يود أن يرافق زوجته لولا أنه يقوم فى هذه الليلة بنوبة عمل ليس فى أمكانه التخلف عنها .. ولم يجد أمامه الوقت الكافى لأن يعتذر أو يأتى بالبديل ..

وقبل وصول القطار لمحت « سميرة » صديقتها « ثريا » واقفة مع سيدة أكبر منها سنا على نفس الرصيف .. فأسرعت كل منهما تسلم على الاخرى فى حرارة وشوق ..

وكانت « ثريا » تودع خالتها المسافرة إلى القاهرة أيضا .. فانشرحت « سميرة » لأنها وجدت رفيقة لها فى السفر .. والتقت بصديقتها القديمة « ثريا » مصادفة على المحطة بعد انقطاع طويل الأمد ..

ووقفن يتبادلن التحية ويتحدثن عن تعب السفر وتأخر القطارات حتى وهى قادمة من « المخزن » مع أن موسم الصيف قد انتهى وحركة السفر أصبحت خفيفة ..

وأخيرا دخل القطار الكئيب المحطة وصعد إليه المسافرون .. وبعد أن تحرك وصفر .. شعر خليل أنه هو وثريا وحدهما على الرصيف الطويل .. وقد خلت المحطة من المودعين جميعا ..

وابتسما بعد أن أحسا بالموقف .. ولكنهما مع ذلك ظلا فى مكانهما على الرصيف صامتين دون أدنى حركة ..

وأخيرا فتح خليل فمه وقال بصوت خافت وهو يشير بيده :
ـ تفضلى ..
وخرجا من المحطة ..

وكانت الشمس مصفرة ، وضوؤها الغارب ينعكس فى نعومة على زجاج النوافذ .. والهواء الرقيق يداعب وجه « ثريا » الوردى فيفتح ثغرها قليلا ويحرك خصلات شعرها بمثل الرقة التى فيها ..

وسألها خليل بعد أن جاوزا الميدان ، وعيناه إلى أهداب عينيها وقد بدأت تطرف من شعاع الشمس ..
ــ إلى أين يا ثريا هانم .. ؟ بيتكم فى « جليم » .. ؟
ــ أبدا .. فى مصطفى باشا ..
ــ اتسمحين لى بأن أوصلك .. ؟
ــ أين ركنت العربة .. ؟
ــ سنركب تاكسى ..
ــ لا .. شكرا .. أنا ذاهبة إلى محطة « الرمل » اشترى شيئا لماما ..
ــ وأنا أيضا ذاهب إلى هناك ..
ــ اذن هيا ..
وأشار إلى تاكسى ..

فاعترضت بسرعة :
ــ لا موجب له .. سنركب الترام .. كما اعتدنا ..

وركبا ترام « النصر » ووجد مكانا خاليا فى الدرجة الأولى فأجلسها فيه ، ووقف بجانبها يتأملها فى صمت ..

كانت ترتدى فستانا بنيا من قطعة واحدة ، يحتضن قوامها الرشيق ، ويبرز فى جلستها المستقيمة جمال ساقيها ، وامتلاء فخذيها ورقة خصرها واستدارة كتفيها ..

وكان وجهها الطويل أبيض خالص البياض ، فى نعومة كأنه ما وقعت عليه الشمس ولا غطس فى ماء البحر ..

وكان ظل ابتسامة يزحف على وجهها بين لحظة وأخرى ، ويكسر فى فتحة عينيها المتألقتين فى سواد ممزوج بالاخضرار الخفيف ، الذى يذهب ويجىء ، كلما تفتحت النفس ، وجاشت العاطفة ..

كان ظل هذه الابتسامة يغطى وجهها كله ، وهى تراه لا يتحمس للجلوس كلما خلا مقعد فى طرف العربة بعيدا عن مكانها ..

وظل يتباطأ وهو جامد فى موقفه ، فيتيح الفرصة لغيره ليشغل المقعد فى لهفة جعلته يضحك ..

لقد أصبح الناس يتصارعون على أتفه الأشياء طرا فى الحياة .. وبرزت عيونهم وأنانيتهم من اللهفة على هذه الصغائر .. فلا أحد يبدى حركة فيها تأدب ، ولا يقوم رجل لسيدة .. ولا شاب لشيخ ..

لقد طحنتهم الحياة فى دوامتها .. فبرزت أنانيتهم ، وظهر جشعهم .. وكل ما فى نفوسهم من صغار ..

وظل « خليل » فى مكانه واقفا ، وهذه الخواطر تدور فى رأسه .. وتكاد يده اليمنى تلمس كتف « ثريا » وتشعر بنعومة بشرتها تحت الثوب المخملى ..

وأخذ يتأملها فى سكون ويملأ عينيه من كل ما فيها من حسن .. وكأنه يلامس بيده جبينها وعينيها وخديها وشفتيها .. ولم تكن فى تقديره .. أكبر من زوجته إلا بسنتين على الأكثر ، ما دامتا كانتا زميلتين فى نفس الكلية ، وتخرجتا فى عام واحد ..

وسمع صوتها وهو يسبح فى أحلامه :
ــ أجلس هناك مقعد .. قبل أن يأخذوه ..
وضحكت ..
ــ لقد وصلنا الشاطبى ..
ــ أمامنا .. محطات كثيرة .. أجلس ..
فطاوعها وجلس ..

وكانت اشعة الشمس قد سقطت من النافذة القريبة على عينيها ، فأغمضتهما .. وأبعدت وجهها بحركة خفيفة ، وأزاحت خصلة شعرها وامتلأ وجهها بالسكون ..

ومن خلال هزة للترام تحركت فيها أكتاف الركاب ، أشرق وجهها فى ابتسامة عذبة .. وظلت الابتسامة ترف حتى دخل الترام محطة الرمل ..

***

وعلى الرغم من أنه قرأ فى عينيها الائتناس بصحبته ، ولكنه سلم عليها فى شارع « سعد زغلول » وافترقا ليتركها على حريتها .. ولأنه لم يكن يستريح أبدا إلى مرافقة النساء فى جولة تسويق .. فقد كان يعانى الكرب من ترددهن أمام الأشياء المعروضة ..

ومع أن صحبته « لثريا » كانت لمدة وجيزة فإنه أحس بالراحة لها .. وبالانتعاش والحيوية .. فمن خلال فترة لم تتعد رحلة الترام من محطة « سيدى جابر » إلى محطة الرمل .. أحس بدم جديد يتدفق فى شرايينه كما أحس بالبهجة ..

فقد كانت حياته مع زوجته فى السنتين الأخيرتين يشوبها النكد والملل .. وكان كل منهما قد أخذ يحس بالفراغ وبموات العواطف .. وكلما حاول خليل أن يحرك هذا الجمود ، ويبعث الحياة والحرارة فى الجو المحيط بهما .. أخفق فى عذاب ..

فقد كانت زوجته مشغولة دائما بزيارة أقاربها العديدين ومجاملتهم فى الجنائز والافراح .. وإهمال شئونه .. وحاجات بيتها .. فلم يأسف كثيرا على سفرها وان أسف على مرض والدتها ..

ولذلك أحس فى رفقته القصيرة « لثريا » بهزة فى نفسه .. تفتحت لها مشاعره .. وجال جولة فى المدينة ثم رجع واتخذ طريق البحر وجلس من وراء الزجاج فى « كافيه دى لابيه » على الكورنيش ..

وكان الجو صحوا ممتعا .. والبحر يرقص موجه ، والمصابيح الكابية الضوء ، قد أخذت تتلألأ فى المنازل والشوارع ..

وعادت صورة « ثريا » إلى ذهنه .. عادت وهو معها فى الترام وفى الشارع .. فى جلستها الناعمة .. وفى وقفته المتأنية .. وفى السلام عليها سريعا ثم فراقها ..

وأخذ يلوم نفسه لأنه تركها هكذا ولم يرافقها فى جولاتها إلى النهاية ، ولم يعرف عنوانها ولا محل عملها .. ولا اشتم من حديثها مدى علاقتها بزوجته ..

ثم خفف من حدة اللوم .. لما استقر رأيه أخيرا على أن ما فعله فى أول لقاء هو عين الصواب ..

ومع كل التبريرات التى استراح إليها ، وهو جالس فى المقهى ، فإنه عندما ذهب إلى بيته وأحس بالوحدة ، رجع يلوم نفسه أشد اللوم على خجله وسوء تصرفه ..

***

وكانت « سميرة » قد حدثت خليل وهى مسافرة ، بأنها سترجع فى مدة لا تتجاوز الأسبوع .. وتتصل به فى الصباح فى مقر عمله فى الشركة أو فى المساء عند بعض أقاربه الذين فى بيتهم تليفون .. ان تعذر الاتصال فى مقر العمل ..

فلما لم تفعل ذلك حادثها تليفونيا فعلم أن والدتها فى حالة خطرة .. وكانت تتحدث وهى تشرق بعبراتها .. فسافر فى الصباح التالى ليعود المريضة .. ورجع وحده إلى الإسكندرية بعد أن لمس الحالة عن قرب ..

***

وللمرة الأولى فى حياته الزوجية التى بلغت خمس سنوات .. بدأ يعيش وحيدا فى البيت ينظفه بيده ويأكل فى الخارج لأنه لم يكن فى بيتهم خادم .. وكان يضيق ذرعا بإعداد أبسط أنواع الطعام ..

فأخذ يقضى الفراغ فى الجلوس على المقاهى وارتياد الملاهى .. وأكثر من التردد على السينما .. حتى لم تكن تفوته رواية واحدة ..

وفى أمسية من أمسيات الخميس شاهد « ثريا » جالسة أمامه فى الشرفة بسينما « راديو » ومعها رفيقة فى مثل سنها ..

ولم يحادثها أو يجعلها تشعر بوجوده إلى أن انتهى عرض الفيلم .. وظل بعيدا عنها وهى تهبط السلم إلى ردهة السينما وهو يغالب عواطفه ..

وكما يحدث فى مثل هذه المواقف ، بسبب لا يدرك تعليله أحد على الأطلاق استدارت « ثريا » وبصرت به عن قرب وفاض وجهها بالسرور ، وانتحت جانبا تنتظر لتفسح المجال لطابور الخارجين .. ولما رأى ذلك منها أسرع إليها مرحبا .. وقدمت له صديقتها فى عبارة فيها ذكاء ولباقة ، وخرجوا ثلاثتهم إلى الشارع ..

***

وكان الجو جميلا ويغرى بالتنزه .. والمدينة تسبح فى الأنوار الزرقاء الخفيفة ..

وساروا على أقدامهم متمهلين مختارين الشوارع الجانبية التى تقل فيها الحركة فى مثل هذه الساعة ..

ثم اتجهوا إلى محطة الرمل .. وهناك أكلوا أكلة خفيفة وتحدثوا فى مرح .. وكانت « ثريا » منطلقة ، ووجنتاها تتوردان ، كلما سمعت نكته لا تستطيع أن تطلق الضحكة المدوية لها فى مكان عام .. أما صاحبتها فكانت تكتفى بالبسمة العريضة دون أن تعلق بحرف ..
وركبوا جميعا ترام الرمل إلى بيوتهم ..

وكان يتحتم على « خليل » فى هذا الليل وفى جو الحرب والغارات أن يرافق « ثريا » إلى منزلها بعد أن نزلت صديقتها فى محطة الابراهيمية ..

وعرف أنها تقيم فى الجانب الشرقى من حى مصطفى باشا .. فسارا الهوينى بعد أن نزلا من الترام وتخطيا طريق الحرية ..

وكان يشعر بالنشوة ، ويود أن يمتد الطريق الضيق الذى أخذ يلتوى فى صعود ، إلى ما لا نهاية ويصبح كبيت جحا يدوران فيه ولا يخرجان منه أبدا ..

ولم يشعر من فرط انتعاشه بلسعة البرد الخفيفة التى أخذت تسرى فى الجو ..

وكانت هى لا تزال ترتدى ملابس الصيف .. فأشفق عليها من البرودة .. ولكنها كانت منتعشة مثله ودافئة ..

وأحس بكل مشاعره وجوارح قلبه بأنها مستريحة إلى صحبته .. وأبدت أسفها على غياب « سميرة » ومرض والدتها فى نغمة حزينة صادقة ..

وبلغا البيت ، وكان من طابقين فى صف من الفيلات المبنية على طراز متقابل فى الشكل والارتفاع .. وفى حى هادىء يبعد جدا عن حركة الترام والاتوبيس ..
وصعد معها حتى الطابق الثانى الذى تسكنه ..

وكانت تود أن تجعله يدخل ويسلم على والدتها .. ولكنه اعتذر ..

وعندما خرج إلى الطريق مرة أخرى ، أحس ببهجة جعلته يسرع فى سيره وهو يواجه رياح الليل القوية المحملة بهواء البحر ..

***

وفى صباح السبت جاءته برقية بوفاة المريضة .. وعزاه زملاؤه فى الشركة وسهلوا له الحصول على الإجازة سريعا ليحضر الدفن .. فهى أم زوجته ولابد من أن يسير فى الجنازة ..

واستقبلته زوجته بالثوب الأسود والعينين المتورمتين من البكاء ..

ومكث فى القاهرة ثلاث ليال .. نام فيها وحيدا فى غرفة خصصت له .. ولم تجرؤ زوجته أمام أخواتها وقريباتها على النوم فى فراشه .. وأمهن ميته .. وغاظه ذلك وفجر كراهيته لكل هذه التقاليد البالية ..

وكانت تقرأ فى عينيه الاشتياق والرغبة .. ولكنها جبنت وبعدت وتركته فى عذاب ..

***

ورجع إلى الإسكندرية وحده وترك زوجته تسوى أمور الميراث مع أخواتها وتحضر الخميس مع أهلها تزور فيه المقبرة .. ثم الخميس الذى بعده .. وقبل ذلك لا تستطيع ترك الأسرة ..

ووافقها خليل على رغبتها ووعدها بأن يحضر أول « خميس » .. ويعود بها فى الخميس التالى إلى الإسكندرية ..

***

ورجع إلى الإسكندرية فى قطار الليل .. وفى الصباح اتصلت به « ثريا » وهو فى مكتبه تعزيه .. ولم يدر كيف عرفت تليفونه .. ثم خمن أنها عرفته من زوجته .. وكان بينهما الحديث ..

وحدثته أنها اتصلت بزوجته تليفونيا لتعتذر لها عن سبب عدم سفرها للقاهرة لتعزى لأنها لا تستطيع ترك أمها وحدها .. وأنها اتفقت مع سميرة أن ترسل له الخادمة .. لتنظف له البيت من حين إلى حين .. لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك . وسميرة لا تحب أن تدخل الأرجل الغريبة الشقة .. فى مدة غيابها عن البيت .. وسترسل له الشغالة اليوم فى الساعة الخامسة ..
وحاول أن يثنيها عن عزمها فلم يستطع ..

وجاءت الشغالة فعلا ونظفت الشقة .. ورفضت أن تتناول منه أى هبة ..

وأصبحت تجىء كل يومين وأعطاها المفتاح لتجىء فى الوقت الذى تختاره ويكون موافقا لها .. وسهلت له الكثير من أمور الطعام التى كان يشكو ويتضايق منها .. وكان يود أن يسألها عن « ثريا » ليعرف القليل عنها .. ولكن لسانه لم يطاوعه أن يستقصى ذلك من خادم ..

وعندما كانت خادمة « ثريا » تروح وتجىء فى بيته وتدخل من غرفة إلى غرفة ..

كان يتصور أن سيدتها معها .. وأنه يسمع صوتها ، وهى تناديها وتطلب منها فعل هذا الشىء وترك ذاك .. وأنه يسمع وقع اقدامها الخفيفة فى الصالة..

وعجب لكل هذه التخيلات ولم يجد فى نفسه التعليل لها .. فأنه لم يفكر مطلقا فى أن يوجد أية علاقة بينه وبين « ثريا » أكثر من التعارف الذى حدث فى المحطة .. وأكثر من اللقاء العابر الذى حدث بعد ذلك فى السينما ..

وظلت « ثريا » فى كل هذه الحالات بالنسبة له صديقة لزوجته أو زميلة لها فى الدراسة على الأكثر ..

ولكن لماذا كل هذا التفكير فيها ؟ ألأنها وحيدة فى الإسكندرية مثله .. ؟ وغير متزوجة كما تصور .. ؟

***

وحدث ذات مرة وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء .. أن ترك نفسه مع سير الترام ونزل فى محطة مصطفى باشا ..

وسار فى طريق الحرية مقبلا ومدبرا أكثر من ثلث الساعة .. ثم اتجه وهو مسلوب الإرادة إلى الحى الذى فيه بيتها ..

ومضى إلى الشارع متماسكا أولا متحكما فى أعصابه ، ثم بدأ يشعر بالاضطراب .. وبتغير ضربات قلبه .. ودارت فى رأسه الخواطر وأحلام أشبه بأحلام المراهقين .. ثم أحس بالعرق يتفصد على جبينه .. وألفى من الحماقة وهو يقترب من البيت أن يطرق بابها ..

ما الذى ستقوله هى أو تقوله أمها لو واجهها فى مثل هذه الساعة .. ؟ وبأى علة سيتعلل .. ؟

وارتد فى الشارع الملتوى الصامت القليل الضوء ، وهو يشعر بجلجلة فى رأسه .. وان رءوسًا قبيحة أطلت من النوافذ ، وأصبحت تضحك عليه بصوت مدو ..

وعندما رجع إلى بيته ونام فى فراشه ، أحس بأتعس ليلة قضاها فى حياته..

***

وفى عصر يوم جاءت خادمة « ثريا » لتنظف البيت .. وجدته جالسا فى الصالة فحدثته قبل أن تأخذ أنفاسها من صعود السلم أن ستها « ثريا » كانت راكبة الترام معها ..

ونزلت فى الإبراهيمية لتذهب إلى مكتب التلغراف القريب من هناك ولما سألها « خليل » عن السبب .. عرف أنها ذاهبة لترسل برقية لاخيها الدكتور فى السويس الذى لم يتصل بهم منذ الغارة على السويس ..

ولم يكن « خليل » يعرف قط أن لها أخا طبيبا وهو الآن فى مستشفى السويس .. كما حدثته الخادمة ، وأنه كان دائم الاتصال بأمه وأخته ويجىء فى الشهر مرة ومرتين ، ولكنه منذ الغارة العنيفة التى حدثت منذ أربعة أيام على مدينتى السويس وحى الأربعين لم يتصل بهما ولذلك اضطربتا وقضيا الليل فى بكاء ..

وتأثر « خليل » لما سمعه من الخادمة ووجد من واجبه كرجل أن يرتدى ملابسه على التو ويخرج ليتصل بهما تليفونيا ويطمئنهما ..

ولما تناول السماعة كان صوت « ثريا » .. غير طبيعى رغم أنها حاولت أن تكتم حزنها لما سمعت صوته .. وبعد حديث قصير عن اخيها .. ومحاولة اطمئنانها .. استأذنها فى زيارتهما فى البيت ليطمئن والدتها .. فرحبت بالزيارة ..
ووضع السماعة وهو يشعر براحة كبرى ..

***

ولما دخل البيت استقبلته « ثريا » مرحبة .. ولكن البكاء كان لا يزال أثره فى عينيها ..

وجاءت الأم وهى سيدة نحيلة فوق الخمسين وكانت ترتدى ثوبا أسود وعلى وجهها الاكتئاب وسلمت عليه بيد ناعمة .. وعيناها الخضراوان تحدقان فيه جيدا ، كأنها تقارن بين الصورة التى كونتها عنه من حديثها مع ثريا ، وبين الحقيقة التى أمامها ..

وبدت فى فستانها الأسود عصرية مع وقار سنها ، فقد كانت مقصوصة الشعر متأنقة الزى فى انسجام رائع والحذاء فى لون الفستان .. والزينة خفيفة ولكنها بادية على الشفتين الحمراوين والخدين الاسيلين ...

وكانت عيناها لازالتا تتألقان بالبريق والسواد المائل إلى الاخضرار .. والعدسة الفاحصة فى استرخاء ، يطل منها الحنان كله ..

وقد رأى أنها كانت جميلة فى شبابها بل فتنة بين النساء ..

وكان البيت منسقا نظيفا .. وأثاثه يدل على ذوق عصرى .. ولم يكن يصل إلى حد الفخامة .. ولكنه كان من طراز عصرى جميل بالغ حد الروعة فى التنسيق ..

سر جدًا لأنه دخل بيتا مصريا هادئا لم يسمع فيه جلبة الأطفال وصياحهم .. ولا الفوضى التى تطالعه كلما زار بيت حماته فى القاهرة ..

وشرب القهوة وأخذ بكل الوسائل يطمئن الأم .. ولكنها لم تطمئن ..

قال لها « خليل » بلهجة قاطعة :
ــ إذن سأسافر إلى السويس .. غدا صباحا .. واجعلك تطمئنين ..

وقالت ثريا ...
ــ وسأسافر معك ...

وقالت الأم ...
ــ سنسافر نحن الثلاثة ..

وقالت ثريا ...
ــ لا داعى لتعبك يا ماما ..
ــ أبدأ .. لابد أن أراه .. هناك ...

وسألت ثريا فى رقة .. وكان قد فاتها شىء لم تلاحظه أولا ...
ــ وكيف تترك عملك .. ؟ ربما لا يسمحون لك بأجازة .. ؟
ــ سأسافر مهما كانت الظروف ..

فردت الأم :
ــ وتتعب نفسك معنا .. با ابنى .. ربنا يخليك ..
ــ هذا .. أقل واجب ...

واتفقوا على اللقاء فى الصباح فى محطة سيدى جابر .. ليأخذوا أول قطار .. ديزل الساعة السادسة صباحا ..

***

وفى الصباح رأى « ثريا » واقفة وحدها خارج المحطة تنتظره باسمة .. وسر جدا وأدرك أن أمها عدلت عن السفر ..

ولما اقترب منها وضغط على يدها انفجرت ضاحكة ..
ــ ما الذى جرى ... ؟
ــ إبراهيم جاء بالليل .. ونائم فى البيت الآن ...
تقصد أخاها الطبيب ...

فقال خليل بمرح :
ــ الحمد للّه ...
واستطردت ثريا :
ــ وجئت مبكرة قبلك حتى لا تقطع التذاكر ..
ــ هكذا قبل الشمس ...
ــ لم أذق للنوم طعما ...
ــ طبعا .. من الفرح ...
ــ الواقع أنا فرحانة .. ومتضايقة .. فرحانة لقدومه ولنطمئن .. ومتضايقة لأنى كنت أود أن أسافر معك ..

ونظرت إليه بعينيها المتألقتين فى ضوء الصباح الرمادى ..

فأمسك بيدها ودار فى الميدان الفسيح وهو شاعر بقلبه يخفق لأول مرة فى وجيب متصل وبأن جسمه قد خف حتى يكاد يطير ..

وبدأت الشمس تغمر المكان فى هذه اللحظة ..

***

وعند محطة الترام سألها :
ــ أراجعة إلى البيت .. ؟
ــ طبعا .. فأمامى ساعتان على البنك ..
ــ البنك فى محطة الرمل .. ؟
ــ فى شارع شريف ...
ــ جميل .. وأنا قريب للبنك فى شارع سيزوستريس ...
ــ حقا ... ما أجمل هذا ...
ولما جاء الترام .. ركب معها ...

فقالت بدلال .. وعيناها تتطلعان إليه :
ــ لماذا التعب ... اذهب إلى عملك ...
ــ أمامى ساعتان ...
ــ روح .. واكمل نومك ...
ــ أشعر براحة أكثر .. وأنا معك ..

واحمر وجهها قليلا ، وبدت فى عينيها رقة ساحرة .. وحنان دافق .. ونكست رأسها .. لتخفى كل الانفعالات التى تبدو على وجه العذراء وهى تسمع كلمات الاطراء الخفيفة ..

ولما نزل من الترام فى محطة مصطفى باشا .. رافقها حتى اقتربا من باب بيتها ..

وكان الصباح جميلا مشرقا ، وخيوط الشمس الذهبية اخذت اشعتها تسطع على زجاج النوافذ .. والشوارع بدت خالية من المارة ، ومن حركة السيارات الثقيلة .. فتجعل المرء يحس بالراحة ، وهو يتنفس ، ويشعر بكيانه ووجوده كإنسان يميل بالفطرة إلى السكون ..

ولما أمسك يدها مسلما وعاد وحيدا فى الشارع الأسفلت الضيق المائل إلى الالتواء والممعن فى السكون .. لم يكن فى الطريق الخالى أحد سواه ..

وكان لا يزال فى كيانه الإحساس بوجودها إلى جانبه .. وقع خطواتها الخفيفة .. ونغمة صوتها الناعمة .. وضحكاتها التى لها رنين الفضة .. واللفتة الجانبية وهى تتطلع إلى وجهه كلما أسمعها كلاما تود أن تملأ به جوانح قلبها . وترى حركة الشفتين وهما تنطقان به .. وكانت تلك هى عادتها المحببة إلى نفسه ..

***

وفى صباح اليوم التالى بعد وصوله إلى المكتب مباشرة سمع صوتها فى التليفون .. وحملت إليه شكر والدتها على ما كان قد اعتزمه من السفر واهتمامه بأمر أخيها ..

وسألها عنه فقالت له بأنه خرج مع والدتها لتسوق بعض الحاجات قبل سفره ..
وسأل « خليل » عن موعد خروجها من البنك ..

وتقابلا فى الساعة الثانية والربع عند حلوانى منعزل فى شارع شريف .. ومكثا عدة دقائق لم يشعرا فيها بالزمن ولا بالوجوه التى حولهما ..

وقال لها :
ــ أننى لم أشعر قط بالوحشة لسفر سميرة بسببك ..
ــ ولكنها وحشتنى .. لقد طال غيابها .. متى ستسافر لتعود بها ..
ــ ربما جاءت وحدها .. يوم الخميس .. لقد تعبت من السفر .. ومن المجاملات فى الجنائز ..
ــ ولكنها والدتها ..
ــ أعرف هذا .. ولكن ما الذى يفعله الندب والبكاء واللطم .. والخميس.. والأربعين . هل يرد ميتا .. ؟ أن حياتها كلها جنائز وقد ضقت ذرعا بهذا ..
ــ أن أخى إبراهيم مثلك تماما .. يكره هذه التقاليد .. ولكنها زوجتك .. والأحسن أن تذهب إليها .. وتمسح دموعها .. وتعود معك ..
ــ أهذه رغبتك .. ؟
ــ طبعا ..
ــ سأنفذها أذن ارضاء لك ..
وضحكت ..

وافترقا على لقاء فى مساء الاثنين .. بعد سفر أخيها إلى السويس ، لأنها تلازمه فى أجازته القصيرة وتنافس والدتها فى خدمته وتطويقه بالحنان ..

***

وقد التقيا فى كازينو « ماى فير » وجاءت مع غروب الشمس فى جوف البحر .. وكأنها شمس أخرى تطل على الكون .. أو كأنها القمر الذى يطلع بعد غروب الشمس .. ولم تكن الليلة مقمرة .. ولكن قمرها كان يشع على البحر الهائج والجمال المحيط ..

وجلسا وراء النافذة الزجاجية العريضة متقابلين ، وعيونهما تحدق واللسانان اخرسان ..

وشعر فى هذه اللحظة بأنه أحبها .. وأنها تبادله الحب دون أن تنطق بكلمة ..

كانت عيونهما تتحدث ، وشفاههما وكل جوارحهما تنطق .. وكأنهما كانا فى عناق متصل ثم انفصلا وراحا فى دوامة الخدر الذى يبلد الحواس بعد هذه القبلة .. ثم استفاقا وأحسا بكل ما حولهما بالبحر.. والليل .. والعشاق القليلين الجالسين مثلهما فى سكون يتهامسون ..

وأخذا يتحدثان الأحاديث المألوفة عن الجو .. والحرب والعمل .. ثم أخذت « ثريا » تحدثه عن خصوصيات حياتها بلسان منطلق .. أحس معه بثقتها المطلقة فيه ..

حدثته بأنها تزوجت منذ أربع سنوات ، وهى لا تزال تدرس فى الجامعة .. من قريب لها .. رحل إلى الخارج ليكمل دراسته ، ولم تستطع هى السفر معه فى وقتها لأنها كانت فى مرحلة البكالوريوس ..

وبعد سفره بعام واحد ، فى اللحظة التى انهت هى فيها دراستها الجامعية .. واستعدت للسفر .. جاءها نعيه .. وعاد إليها فى صندوق ..

وانتابها حزن قاتل .. فهى تزوجته فى نظر الناس ولكنها لم تتزوجه فى الحقيقة .. ولم تحس بالسعادة الزوجية ساعة واحدة ..

وكانت ملامح وجهها جامدة ، وهى تقص عليه هذا ، وأدرك أنها بكت كثيرا حتى جفت دموعها ..
وأمسك بيدها فصمتت ..

وجاشت ذكرياتها الحزينة دفعة واحدة .. فرأى « خليل » أن يغير مجرى الحديث .. وأن يخرجا من المحل ويتمشا على البحر .. فقد أحس بحاجته إلى الحركة وحاجتها بعد هذه الذكرى الحزينة ..

وعلى البحر اختار الطريق الهابط .. وسارا متشابكين بالأيدى على ضوء المصابيح الخافتة ، وعن يسارهما السور العالى يقيهما من العيون وعن يمينهما البحر الذى تحولت زرقته إلى اللون الأحمر القانى كلما علا موجه وصمت ..

وكانت الريح الباردة المحملة بأنفاس البحر ورائحة الطحلب .. تمر على وجهيهما وتحرك شعرها .. وتسدله على عينيها .. فمد خليل يده فى رقة وأزاحه عن جبينها .. فتهلل وجهها .. وكانت هذه اللمسة الناعمة ، وهذه اللفتة الضاحكة من عينيها تحتم عليه أن يختمها بقبلة .. ولكنه لم يفعل ..

ولا يدرى أكان ذلك جبنا منه أم زيادة أحترام لها وهما فى طريق عام .. مهما كان هذا الطريق خاليا وشاحب الضوء ..

ولما بلغ التقاطع .. كان يرغب فى أن ينحرف إلى اليسار ويسير فى الشارع الواسع المؤدى إلى سيدى جابر .. ولكن « ثريا » رأت أن يواصلا السير على الكورنيش حتى كليوباترا ..

وكان الليل الحالم يلفهما .. والبحر كأن موجاته تغنى لهما وحدهما أعذب الألحان ..

واخترقا حى كليوباترا إلى شريط الترام .. الحى الذى كان صخابا فى الصيف ويعج بالمصيفين وبالحركة الدافقة يموت الآن فى الخريف .. وفى الساعة التاسعة ليلا ..

وعلى الباب وهى تدق الجرس على والدتها تركها .. لم يشأ أن يتركها وحدها فى الليل شبرا واحدا .. أحس بأنه مكلف بحمايتها وابعادها من كل شر ..

***

وفى الساعة الثالثة من اليوم التالى دخلا السينما .. وقالت لوالدتها انها ستواصل العمل فى البنك لتنجز أوراقا متأخرة ..

وكانت عواطفها لا تزال مشتعلة اشتعال أبطال الفيلم ..

وجلسا متلاصقين يحسان بحرارة جسميهما ، وحرارة انفاسهما وضربات قلبيهما ..

وكان يود أن يميل عليها بقبلة .. ولكن منعه الجوار وازدحام البلكون ، والعيون التى وراءهما وبجانبهما .. وقد كره الجمهور .. لأول مرة .. وكرهه بعنف ..

وبعد السينما شربا الشاى فى « باستوريدس » ثم ركبا الترام إلى البيت ..

***

وفى عصر يوم من أيام الاثنين وكان قد تغدى خارج البيت .. أحس وهو داخل بحركة فى المطبخ ، فأدرك أن خادمة ثريا تقوم ببعض أعمالها .. كالعادة .. فتركها فى عملها .. ودخل غرفته ليستريح ..

وبعد أن خلع بدلته.. وارتدى بيجامته .. مشى إلى دورة المياه ليغسل وجهه .. وفى الردهة الضيقة بصر " بثريا" بلحمها ودمها خارجة من المطبخ .. ففتح فمه دهشا .. وتبادرت إلى ذهنه بأنها جاءت ترافق الخادمة .. عناية به وببيته ..

ولكنها نحت عنه هذا الخاطر بقولها :
ــ سنية سافرت تزور والدتها فى كوم حمادة منذ يومين .. ولازم البيت يتنظف .. فجئت أنا ..
وكان يود أن يقبل فمها الذى نطق بهذه الألفاظ ..
ــ شكرا .. هذا كثير .. اشعر بخجل لا حد له ..
ــ لا داعى لهذا كله .. هل تغديت .. ؟
ــ أجل .. وأنت .. ؟
ــ نعم تغديت .. وسأصنع لك قهوة ..

وعادت إلى المطبخ .. وأدرك أنه يلبس البيجامة أمامها وهذا لا يليق .. وفكر أن يخلعها .. ويعود إلى لبس البدلة ..

وجاءت بصينية القهوة .. ووضعتها فى الصالة فى اللحظة التى رأته يخلع سترة البيجامة ..
ــ لماذا .. ؟
ــ سألبس البدلة ..
ــ ولماذا التعب .. ؟ خذ راحتك ..
ــ لا .. هذا .. لا يليق ..

ورأته مصرا .. ومشت إليه وأمسكت سترة البيجامة قبل أن يخلعها .. ولامست يده ذراعها .. فأمسك بها ليمنعها من منعه .. ووجدها ملاصقة به بكل جمالها وكل ما فى جسمها اللدن من فتنة .. فشدها إليه .. وأخذ يقبلها فى شفتيها وعينيها ونحرها بعنف .. ونسيت نفسها لحظات .. وأخذت تبادله القبلات بحرارة .. واستراحت مغلقة عينيها .. فأخذ فى رقة يفك أزرار ثوبها، وهى واقفة ، فأمسكت بيده ، وفتحت عينيها فى توسل ..

وحاول أن يعانقها بعنف وأن يجرها إلى الفراش .. فوجدها تقاومه بشدة ..

وسألها والعرق يتفصد على جبينه :
ــ هل تفكرين فى سميرة .. يا ثريا .. كصديقة لك .. ؟
ــ أبدا .. ما فكرت فى هذا .. وأنما أفكر فى شىء آخر .. رهيب ..
ــ ماذا .. ؟
ــ أفكر فى أخى .. إبراهيم ..

وأستغرب .. وسألها :
ــ وما علاقته بالمسألة .. ؟
ــ لو فعلت ما ترغب فيه .. سيموت .. أن حياته مقرونة بطهرى ..
ــ وكيف تشغلين رأسك بهذه الأفكار .. ؟
ــ أنها مسيطرة على تماما .. وهى أحاسيس صادقة .. وقد جربتها ..
ــ جربتها .. ؟ !
ــ أجل .. عندما كان توفيق فى الخارج .. وقد عاد بعدها فى صندوق ..

وغشيهما الضباب .. فتركها وأخذ يروح ويجىء فى الصالة .. وهو فى أشد حالات العذاب ، وهى جالسة منكسة الرأس صامتة .. وفى عينيها دموع لم تحبسها هذه المرة ..

================================
نشرت القصة بمجلة المصور فى 7/7/1972 وأعيد نشرها بمجموعة " عودة الابن الضال " وبمجموعة قصص من الإسكندرية من تقديم واعداد على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002

=================================


صوت البحر

صوت البحر

بقلم محمود البدوى

اشتغلت منذ سنوات فى مكتب للسياحة بشارع شريف بمدينة الإسكندرية .. وكان صاحبه رجلا إيطاليا يدعى « لوسيانى » كثير الأعمال ، واسع النشاط ، إذ كان يقوم بأعمال أخرى تجارية غير السياحة ، وكان لمكتبة فروع فى معظم الدول الأوربية .. كما كان له شركاء لا أعرفهم ، ولم أشاهد أحدا منهم فى مدينة الإسكندرية ..

وكان هو قليل الإقامة فى هذه المدينة أيضا.. وترك إدارة عمل المكتب لشاب متجنس بالجنسية المصرية يدعى « ميشيل » وكان مثقفًا خبيرًا بشئون السياحة إلى أقصى مدى .. ويجيد أربع لغات حية ويعرف كل شبر فى مصر وفى كل بلد له أتصال بعمل المكتب .. وكان يعتمد علىَّ اعتمادا كليا إذا سافر إلى الخارج ..

وكان فى المكتب ثلاث موظفات أخريات من خريجات المعاهد الأجنبية منهن مصريتان .. وكنا مع اختلاف ثقافتنا وسننا نكون مجموعة صالحة تجيد الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية .. ولم نكن فى حاجة إلى لغة أخرى بالنسبة لعمل السياحة ..

وكان العمل فى المكتب متصلا طوال أيام الأسبوع فلا اغلاق فى يوم جمعة ولا أحد .. وكنا نتناوب بيننا يوم الراحة ونترك لكل منا اختياره حسب ظروف الأحوال .. وكثيرا ما كنا تحت ضغط العمل لا نستريح أبدا .. فقد كانت سمعة المكتب حسنة فى كل البقاع ..

وكان شعارنا الأمانة والصدق وحسن اللقاء .. وهى صفات لم نكن نتكلفها بل كانت من طباعنا ..

وكنت اتوجه إلى عملى فى الساعة التاسعة تماما من كل صباح لا أتأخر دقيقة ..

وفى صباح يوم من ايام الأثنين .. وكانت الساعة التاسعة إلا ثلثا .. شاهدت وأنا أمضى على الرصيف الأيسر من شارع « النبى دانيال » سيدة تعلق بعض المجلات الأجنبية على واجهة محل .. ولم أكن قد لاحظت من قبل وجود مكتبة فى هذا الشارع على الاطلاق .. لأنه كان يختنق بدكاكين صغيرة على الصفين لا علاقة لها بالكتب .. دكاكين الأحذية ، والملابس الجاهزة ، والسجائر والحلوى ، وحقائب السيدات ..

ووقفت أسأل عن جريدة « نيوز اوف ذا وارلد » فأجابت السيدة دون أن تتحول إلى ناحيتى ، ويدها مشغولة بترتيب مجلاتها :
ــ انها تأتى فى صباح الثلاثاء ..
وسألتها وأنا أتطلع إلى الواجهة ..
ــ المكتبة جديدة .. ؟
ــ إننا هنا من تسع سنوات ..

وواجهتنى وهى تقول هذا .. بصوت فيه لذعة السخرية من غفلتى .. ورأيتها سمينة قليلا وتقترب من طولى وهى واقفة على الرصيف .. وأنا تحته .. حتى لا يحتك جسمى بجسمها ..

وكانت قد شغلت الرصيف كله وفتحت « فترينة » المكتبة الخارجية لتضع فيها بعض الكتب الجديدة .. وانحنت ثم انتصبت فى رشاقة وسددت إلىَّ عينين فيهما من الشحوب مثل الذى رأيته على وجهها ..

وقلت وبصرى مركز على شفتيها المنفرجتين ..
ــ سأمر غدا ..
ــ مرحبا ..

وهبطت الدرجات وتركتنى اتطلع .. ولمحت المكتبة كلها فى عمق « البدرون وهى فى طول مع اتساع ، وممتلئة إلى السقف بالكتب ، فى تنسيق جميل ..

وعجبت لغفلتى ، وكيف لم الاحظ وجود هذه المكتبة من قبل ، مع أنى أمر كثيرًا من هذا الشارع .. وهى قريبة من مركز عملى ، وكثيرا ما احتاج للصحف والكتب الأجنبية .. فكيف كنت أبعد وأذهب إلى غيرها ..

* * *

وفى صباح الثلاثاء وجدتها فى الداخل ، وكانت فى رداء غير الذى شاهدته عليها بالأمس .. جونلة رمادية على بلوزة من « الجرسيه » والشعر مقصوص متموج .. والوجه أكثر شحوبا مما كان بالأمس .. والعينان العسليتان فيهما بريق مطفى ..

وثبتت بصرها على وجهى برهة .. وأدركت أنها نسيتنى تماما ، ونسيت أننى طلبت نسخة من « النيوز » ..
وجاءت بالصحيفة .. ونقدتها اثنى عشر قرشا ثمنها ..

وقلت أنا أقلب البصر فى رفوف الكتب :
ــ كنت أود أن يكون لدى وقت .. لأرى هذا كله .. ولكن الساعة تقترب من التاسعة .. أمفتوحة المكتبة بعد الظهر ... ؟
ــ المكتبة مفتوحة طول اليوم ..
ــ طول اليوم .. ؟
ــ لى شريكة تأتى بعد الساعة الثالثة .. وأنا فى الصباح ..
ــ والكتب رائجة .. ؟
ــ الحمد للّه .. اعتمادنا كله على مجلات الأزياء الآن ..

وكانت لهجتها مصرية خالصة وسرنى ذلك وحييتها وخرجت ..

* * *

وبعد يومين الفيتها وحدها فى الداخل كالعادة .. والساعة تقترب من الثانية والنصف بعد الظهر .. وحييتها بهزة من رأسى ، وأخذت استعرض الكتب الإنجليزية والفرنسية .. ولم أكن أبغى كتابا بعينه ..

وسألتنى بعد أن رأتنى أطلع فوق السلم المعدنى وأنزل منه .. دون أن أقع على شىء ..
ــ هل وجدت ما تطلبه .. ؟
ــ أبدا .. ومازلت أبحث ..
ــ رواية .. ؟
ــ نعم ..
ــ ما اسمها .. ؟
ــ الثعلب .. هل شاهدت الفيلم .. كان فى سينما « أمير » ..
ــ أبدا .. عن إذنك ..

وهبطت ، وطلعت هى .. وترددت قليلا قبل أن تضع قدمها على أول درجات السلم ، لأنى كنت أقف تحته مباشرة .. وأصبح وجهها فى لون الكريز عدة ثوان ..

ثم صعدت فى خفة رغم أنها سمينة نوعا .. ولكننى أدركت موقفها وما اعتراها من خجل فلم أرفع وجهى وهى صاعدة ورفعته وهى هابطة وبيدها الكتاب ، فتناولته من يدها ، وأمسكت بذراعها الناعمة حتى استوت على أرض المكتبة ..

وكان الكتاب من طبعة « بنجوين » وأعرف ثمن هذه الطبعة فاخرجت الأربعين قرشا .. وسألتنى وأنا أناولها النقود ..
ــ أترغب فى لفه .. ؟
ــ لا .. شكرا .. سأقرأه فى الترام ..

ولم يكن هناك سبب لبقائى .. ولكننى بقيت وأخذت أدير عينى فى عناوين الكتب فى الناحية التى وضعت فيها الكتب الفرنسية ..

فسألتنى :
ــ أتقرأ بالفرنسية أيضا ..
ــ أجل ..
ــ هذا جميل .. فالكتاب الفرنسى فقد سوقه عندنا منذ رحيل الأجانب ..
ــ ستخرج المدارس الفرنسية غيرهم ...
ــ أبدًا .. إن هؤلاء مع الأسف لا يقرأون إلا الكتب المدرسية ..

والفيت المجال انفتح أمامى للمحادثة .. ولما كنت أعرف أن شريكتها تأتى فى الساعة الثالثة ، فقد شعبت الحديث ، وأطلته إلى أن تجىء الأخرى ويقع عليها بصرى ..

وفكرت فى الأشياء التى تجعلها تستريح إلىَّ بعد أن لاحظت حالة المكتبة وما هى عليه من قلة الرواد ..

فقلت لها :
ــ أعرف أصدقاء كثيرين .. يشترون الروايات الأجنبية من " هاشيت " وغيرها .. وسأعرفهم طريق مكتبتك .. سيكونون زبائن جدد ..
ــ شكرًا .. شكرًا ..

وظهر على وجهها الفرح .. بدت ابتسامة خفيفة فى العينين الساكنتين .. وتكسر الجفن قليلا ، وعلت الوجنتين حمرة ورعشة .. وبدا الوجه أقل طولا مما هو فى الواقع ..
وظل جانب منها .. من عينيها ، وشفتيها ، يلاحظنى فى إصرار لأقول كلامًا أكثر .. كلاما كانت متعطشة إليه وفى أشد حالات اللهفة على سماعة.. ولكننى صمت ..

وقلت وأنا أنظر إلى الساعة :
ــ الساعة الثالثة وخمس دقائق .. لقد أخرتك ..
ــ أبدا .. لابد أن أنتظر شريكتى ..
ــ امعتادة هى على التأخير .. ؟
ــ قليلا .. انها موظفة ..

وقلت وأنا أهم بالذهاب ..
ــ أشكرك .. سأذهب لأن مشوارى طويل ..
ــ أين تسكن .. ؟
ــ فى اسبورتنج .. وسأعود للمكتب فى الساعة الخامسة ..
ــ أنا أقرب منك ..
ــ أين .. ؟
ــ فى الأبراهيمية ..

ولم اسألها ان كانت تسكن بالإيجار مثلى أم هو بيت الأسرة .. فقد صعدت درجات المكتبة ، وأستقبلنى جو الشارع البارد ..

* * *

وانقضى الخريف ، ودخلنا فى الشتاء ، وأخذت أفواج السياح الأجانب تتوافد على الإسكندرية من البحر ..

وكانت شركتنا تمتلك سيارة واحدة كبيرة تتسع لـ40 راكبا ويسافر فيها السياح فى جولات قصيرة إلى القاهرة .. ولزيادة العدد اضطررنا إلى استئجار سيارة أخرى وركبت مع السياح فيها كدليل .. وعدت بعد أسبوع مع الفوج ونحن نغلق المكتب فى التاسعة مساء ..

ولما مررت على المكتبة وجدتها مضاءة ، ولم أجد صاحبتى ، وجدت شريكتها التى حدثتنى عنها من قبل .. وكانت أصغر منها سنا وأطول قامة ، وأكثر خفة حركة ورشاقة ..

وسألتها عن « النيوز » ، وهى مشغولة بالحديث مع بعض الزبائن ..

فقالت فى برود وهى تحدق فى وجهى بشدة ..
ــ خلصت ..

ولم تزد حرفا واستدارت إلى الزبائن .. وكان وجهها الجامد الخالى من كل تعبير لا يغرينى على محادثتها ..

فتركتها وأنا أحاول أن أتذكر أين وقع بصرى على هذا الوجه من قبل .. ثم تذكرت أنها تركب ترام الرمل من محطة الابراهيمية فى ساعة معينة لا تغيرها .. وتدخل فى نفس العربة التى أجلس فيها ، وتحاول بقامتها الطويلة ، وشعرها الأسمر المتدلى وبعينيها الواسعتين أن تتلمس مقعدا فى زحمة الصباح .. فإن لم تجد لم تيأس وتظل واقفة .. فى مكانها من وسط العربة وعيناها تدوران فى كل اتجاه وحقيبتها ذات الحمالات على كتفها .. وما كان وجهها فى خلال المسيرة من الابراهيمية إلى محطة الرمل تتحرك فيه جارحة أو تحس معه بالحياة .. وانتقلت الصورة كما هى بكل صفاتها إلى المكتبة ..

كانت عاملة الصباح بوجهها الشاحب ورقتها أكثر إيناسا لى .. وهناك أناس تراهم فى الحوانيت ، وتنفر من سحنتهم الكئيبة ، ومن خمود ملامحهم ويجعلونك لا تفكر قط فى شراء أية بضاعة منهم .. وان كانوا يبيعون أجود الأصناف على الأطلاق ..
ولهذا نفرت من عاملة المساء ..

وقل ترددى على المكتبة فى أثناء نوبتها ..

* * *

ولما هبطت درجات المكتبة فى الصباح وجدت صاحبتى فى ركن تتعامل مع سيدة مسنة وشابة .. واستقبلتنى وأنا داخل بابتسامة خفيفة .. وتركتها حتى تفرغ منهما ..
واشترت واحدة ولم تشتر الأخرى .. وخرجتا ..

فرفعت إلىَّ وجهها كأنها تسأل :
ــ أى خدمة .. ؟

وكانت فى فستان برتقالى من التيل ، محكم التفصيل على جسمها المكتنز .. فأبرز مفاتن الجسد .. وأحمر وجهها قليلا لما لاحظت نظراتى التى ليس فيها أدب ..

وقلت وأنا أرفع « دافيد كوبر فيلد » من الصف ..
ــ لقد انقطعت لسفرى ..
ــ أين كنت .. ؟
ــ فى القاهرة .. رحلة للمكتب ..
ــ وجبتلنا أية معاك ..؟
قالت هذا بدلال وعامية حلوة وصوت أحلى ..

فأخرجت سريعا علبة صغيرة من جيبى وقدمتها لها ..
فتناولت العلبة وفتحتها وقالت فى دهشة :
ــ هل أخذت المسألة جد ..؟ هذا لى .. ؟ !
ــ بالطبع ..
ــ سلسلة .. وكمان دهب .. ؟!
ــ هذا قليل ..
ــ وهل كنت تفكر فى أنا .. وأنت فى القاهرة ومعك نساء جميلات .. سائحات من كل جنس ..
ــ أن هؤلاء لا يحركن مشاعرى أبدا ..
ــ صحيح .. ؟
ــ صحيح ..

وضحكت .. ورف وجهها مثل الأرجوان .. وسددت نظراتها .. وفى تلك اللحظة شعرت بأنى أميل إليها .. ولا أدرى إلى أى حد ..

* * *

وفى صباح الخميس ، وكنت أتقدم فى الشارع فى تؤدة .. لمحتها من بعيد ترتدى مريلة زرقاء وبيدها المكنسة ..

وكانت تكنس الرصيف الواقع أمام المكتبة وحتى ما يجاوز ذلك بمقدار أذرع .. وأشفقت عليها وأكبرتها فى الوقت عينه .. فإنها تقوم بكل عمل بنفسها .. دون أن تستعين بخادم وكثيرا ما تحمل مجلات الأزياء إلى زبوناتها فى بيوتهن لتسهل عليهن عملية الشراء والتردد بانتظام على المكتبة ..

ولم يظهر عليها الخجل أو تتوقف عن الكنس لما اقتربت منها .. وإن كانت يدها قد تباطأت قليلا .. وأزاحت خصلة من شعرها عن جبينها .. وانتصبت ترد على تحيتى ..

فقلت بابتسامة :
ــ خلى عنك ..
ــ العفو ..

وظلت الابتسامة الناعمة ترف على ثغرها ، وتركتها فى عملها وهبطت إلى قاع المكتبة .. وجاءت بعد قليل من الوقت فخلعت مريلتها وبدت تحت المريلة فى بلوزة بيضاء وجونلة زرقاء كأنها تستقبل بهما أسعد أيام الصباح .. وان كان الشحوب لا يزال يرى بعض آثاره على الخدين .. ولكن العينين أخذتا فى الالتماع ..

وبدافع من الشفقة البحتة اشتريت كتابين لم أكن أبغى شراءهما ..

وسألتها وهى تلفهما :
ــ هل أنت مستريحة إلى هذا العمل .. ؟
ــ وماذا أفعل غيره ..؟
ــ توظفى مثلا ..
ــ انى لا أحمل شهادات مجرد تعليم ثانوى فى المدارس .. الأجنبية ..
ــ انهم لا يطلبون الشهادات بالنسبة للمرأة .. وتستطيع من تجيد اللغات الأجنبية أن تقوم بأعمال كثيرة .. لا تتطلب الشهادة .. كالسكرتارية .. والآلة الكاتبة مثلا ..
ــ لقد قمت بعمل المكتبة وأنا صغيرة لأعول شقيقاتى بعد وفاة والدى وأمى .. كنت الكبيرة ولم يكن لهن عائل سواى .. وكنت أشترى لهن الكتب والكراسات من مكتبة بجانب بيتنا فى محرم بك .. فقلت لنفسى ولماذا لا أفتح أنا مكتبة ..

وفتحتها وحدى فى شارع تانيس .. وبعد هذا جئت إلى هنا .. وأشعر بالاستقلال والحرية .. وقد خفت أعبائى الآن وتزوجت شقيقاتى الثلاث جميعا ...
ــ وهل هن معك فى الإسكندرية .. ؟
ــ أبدا .. انهن بعيدات عنى .. وأقربهن إلى متزوجة فى طنطا ..
ــ لقد قمت برسالة عظيمة .. وأنت لماذا لم .. هل ..
ــ لم أتزوج .. لقد شغلت بهن ونسيت نفسى .. حتى فاتنى القطار ..
ــ أبدا .. لا تفكرى هكذا .. انك الآن فى سن الجمال الآسر ، فى أجمل ساعات العمر بالنسبة للمرأة .. فكيف تفكرين هكذا ..

وتضرجت وجنتاها .. وأنفرجت شفتاها .. والتمعت عيناها .. وشعرت بأن كلماتى ردت النضارة إلى وجهها .. وأجرت الدم فى شرايينها ..

وقالت هامسة :
ــ بصراحة .. لم أفكر فى الزواج أبدا وشغلت بالعمل .. كما ترى ..
ــ العمل .. جميل وطيب بالطبع .. ولكن لا تفكرى أن القطار قد فاتك أبدا .. فبعد عشرين سنة من الآن يمكن أن تقولى هذا ..

فقالت برنة فرح ..
ــ ما هذا .. ؟ !
وضحكت جذلانة طروب ..

وخرجت وأنا أشعر بالرضا .. لأنى حركت الرماد الذى كان خامدًا فى أعماقها ..

* * *

وبعد هذا الحديث لاحظت أن أحوالها تغيرت تمامًا .. وأصبحت تعنى باختيار فساتينها ، وتتزين ، وتستقبلنى وهى متعطرة .. فى بشاشة تطل من العينين والشفتين ..

وأصبح شراء الكتب لا يهمها .. بقدر ما يهمها حديثى .. وبمجرد دخولى إلى المكتبة .. أراها تفرغ مما فى يدها بسرعة .. لتقف بقربى وأنا جالس على الكرسى الذى أعدته لى بجانب الطاولة .. وأصبحت لا أشاهد من يجلس عليه سواى ..

وكانت تستبقينى ويطول بيننا الحديث ، إلى أن تحضر صاحبتها التى تأتى غالبا بعد الساعة الثالثة ..

ويحدث أحيانا أن أتأخر فى المكتب إذا أشتد ضغط العمل .. فإذا اتجهت إلى المكتبة الفيتها واقفة على الباب ونظرها معلق بالناحية التى أجىء منها .. فإذا أقتربت أرى كل جوارحها تتفتح لمقدمى كما يتفتح الورد للظل ..

ولاحظت أنها تشعر بالغيرة الشديدة إذا تبسطت مع زميلتها فى الحديث .. أو جاوزت الحد إلى المداعبة الخفيفة .. مع أنى لم أكن أشعر بالميل نحو شريكتها أبدًا .. وكنت أحاول فقط بالمداعبة الخفيفة أن أذيب بعض جمودها وأن أجعلها تتيقن أن علاقتى « بصفية » لا تتعد ما هو يجرى عادة بين صاحب المتجر والزبون ..

وعلمت أنهما تسكنان معا فى شقة واحدة فهما شريكتان فى البيت كما هما فى المكتبة .. « فصفية » لما أصبحت وحيدة فى الإسكندرية بعد زواج شقيقاتها .. أسكنت « عفاف » معها فى نفس الشقة .. والشقة ايجارها رخيص وتقع فى شارع تانيس ذلك الشارع الطويل الضيق ، الهابط الصاعد ، الذى يبدأ وينتهى إلى حدود الأبد ..

* * *

وعرض فيلم جميل فى سينما « رويال » .. والسينما قريبة من المكتبة ومن مكتب السياحة .. ففكرت فى أن تراه فى يوم الأحد وهو اليوم الوحيد الذى تغلق فيه المكتبة ..

ولما عرضت الرغبة على « صفية » قالت برقة :
ــ آسفة .. لا أستطيع أن أرافقك إلى حفلة فى السينما .. فأنا معروفة فى هذا الحى .. وزبونات المكتبة كثيرات .. وأنت تعرف السنة النساء ...
ــ الفيلم جميل .. وخسارة أن يفوتك .. وما دام وجودى معك يحرجك.. سأجىء بتذكرتين واحدة لك والأخرى لعفاف فى حفلة الساعة الثالثة ..
ــ لا تكلف نفسك .. ولا تعود عفاف على السينما ..

وابتسمت وأضافت :
ــ وكفاية وجودنا مع بعض فى المكتبة ..

تضايقت من رفضها رغم هذا الاعتذار الرقيق .. وبإحساس شاب فى مثل سنى لا يجد فى نفسه قبولا لمثل هذا الاعتذار ، وفى فورة غضب انقطعت عن زيارة المكتبة فى الصباح وأصبحت أمر عليها فى المساء .. أثناء وجود شريكتها عفاف ..

والفيت هذه رغم برودتها وما فى وجهها من قبح .. تتفتح عواطفها إذا كنت معها وحدى فى المكتبة .. ولا يوجد زبون آخر .. وتتطلب فى هذه اللحظات المداعبة الصريحة والغزل المفتوح ..

وتطورت العلاقة ولكنى وقفت بها عند حد النزهات الخلوية .. والقبلات والضحكات والسينما كلما غفلت عنا العيون ..
وكنت أمنيها برحلة إلى باريس فى الصيف المقبل ..

وكادت أن تستسلم لى بكليتها لمجرد الأحلام التى تدور فى ذهن الفتاة عن هذه الرحلة .. ولكننى لم أكن أحبها .. وعاملتها بلطف .. كما كنت أعامل رفيقاتى فى العمل فى مكتب السياحة اللواتى لم أكن أشعر نحوهن بأية عاطفة ، مع أن فيهن من تعد جميلة بين النساء ..

ولكن هناك أحساس فطرى لا يمكن فهمه ولا تفسيره بعين العقل فى هذه الحياة .. احساس يقرب المرء من هذه المرأة وينفره من تلك ..
وبهذا الاحساس عشت حياتى ..

* * *

وفى الساعة الثامنة والنصف من صباح السبت ، وكنت أعبر إشارة المرور عند مقهى « التريانون » فى محطة الرمل ، تحت رذاذ المطر ، وجدت « صفية » تسير خلفى ..

وقالت وهى تقترب بلهجة عتاب .. !
ــ أكنت مسافرا .. ؟
ــ أبدا ..
ــ ولماذا لا أراك .. ؟
ــ شغلنى عمل كثير فى المكتب ..
ــ لا .. ليس هذا هو السبب ..
ــ ما هو إذن .. ؟
ــ اعتذارى عن السينما أغضبك .. ولماذا السينما .. نستطيع أن نكون مع بعض فى مكان آخر ..
ــ ولكنى أصر على السينما ..

وكان هذا حماقة منى .. وربما تكون السبب فى القطيعة .. وراعنى أنها أجابت فى رقة :
ــ سنذهب إلى السينما ..

وذهبنا إلى السينما فى حفلة الساعة الثالثة من اليوم التالى .. وكانت وادعة طيعة ، ومتعطشة لكل كلماتى فى الظلام ..

وعرفت أننى أقيم فى شقة على البحر فى اسبورتنج ، وأنام مع صوت البحر وهدير موجه العالى .. ومازلت أصف لها الشقة وما فيها من جمال حتى تشوقت إلى رؤيتها ..

وفى طريقنا إلى ترام الرمل ، اشتريت لها زجاجة عطر فرنسية من أجمل العطور فسرت بها كثيرا ..

* * *

وأخذنا نخرج معا للتنزه .. كلما وجدنا الوقت والفراغ .. وكنا نختار الليل دائما .. ودخل الشتاء علينا ونحن لا نكاد نشعر بامطاره وعواصفه .. فقد كنا فى دفء من العواطف ..

ولم أقل لها كلمة حب ، ولم تقل هى ذلك .. ولكن كل ذرة فى جسمينا كانت تنطق به .. ونسيت سمنتها والالتواء الذى فى ساقيها .. وأسرنى صدرها المكتنز .. وعيناها الساجيتان ، وشعرها المتموج ، والرقة التى فى حديثها ..

كانت تفيض بالعواطف الزاخرة .. وعرفت بيتها وعرفت بيتى .. ولكننا لم نتزاور بعد .. وقد مضت شهور طوال على أول لقاء ..

* * *

وفى ليلة من ليالى مايو .. وكنا راجعين من استانلى .. نزلنا من الترام فى اسبورتنج ونزلت معى صامتة دون أن تفتح فمها بكلمة .. أحسست بأنها مأخوذة بشىء لا تستطيع مقاومته ولارده .. شىء أقوى من كل إرادة للأنثى ..

ودخلنا شقتى .. ولما أصبحنا فى البهو الصغير وأغلقت الباب ورائى تعانقنا فى الظلام قبل أن ندير مفتاح النور ..

وكنت رقيقا وأنا أفك أزرار ثوبها .. وأحسست بها متعطشة للحب الذى جاءها قبل فوات الأوان ..

واخترنا شاطئ أسبورتنج للاستحمام أيضا ... وكنا نهبط فى اتجاه البحر من سلم صغير أمام باب الشقة .. وكان المكان الذى اعتدنا الاستحمام فيه حجريا كثير الصخور .. ولكنه غير عميق لأنها لا تعرف السباحة .. وهو آمن من السيف الرملى الذى يقع بجوار الكازينو .. والذى كثيرا ما يعصف فيه البحر ويعلو موجه ..

ولم يكن فى الجوار أحد فى هذا الصباح المبكر قبل الشروق بكثير ..

ودخلت الماء بصدرها ثم انتصبت فتساقط الماء مثل حبات الدر على خطوط جسمها اللدن .. وتقدمت فى حذر حتى بلغ الماء ردفيها المكتنزين .. وسمعتها تنادينى ..
ــ عزت .. تعال .. أنا خائفة ..
فأسرعت وأمسكت بيدها ..

وكنا نشاهد على ضوء الصباح الشاحب ، زوارق الصيادين هناك على خط الأفق ، واقفة فى نصف دائرة .. وأنوار قناديلها لازالت تشع ، وقد أخذت تسحب شباكها بعد أن ظلت طوال الليل تغرى السمك بالفوسفور البراق ، وبكل الحيل التى يعرفها الصيادون فى البحار الساكنة ..

ومالت برأسها على صدرى فى الماء فأحتضنتها وغطست بها .. وأحسست بكل ما فيها من نعومة وفتنة تحت ملمس أصابعى .. وطال بقاؤنا فى البحر حتى أحسست بالبرد .. فأخذنا طريقنا إلى الشاطئ فى حذر حتى صعدنا إلى الشارع الخالى من كل إنسان ..

* * *

وأصبحت « صفية » تقرع بابى فى ساعة معينة ..
ومرت أيام جميلة ..

* * *

وفى ليلة من ليالى الصيف الشديدة الرطوبة .. خلعت « صفية » بلوزتها وجلست على حافة السرير ..
وقالت من غير تمهيد :
ــ إنى حامل ..

وشعرت بسكين حادة تنغرس فى قلبى ، وسألتها وفى صوتى رجفة الخوف :
ــ هل أنت على يقين ..؟ يحدث كثيرا أن تنقطع ..

وقاطعتنى قائلة :
ــ إنه الشهر الثالث ..
ــ لا داعى لأن تضطربى .. فالمسألة أصبحت سهلة للغاية فى هذا العصر .. والأطباء كثيرون ..

وسألت بجفاء :
ــ أية مسألة .. ؟
ــ التخلص من الجنين ..
ــ ومن الذى قال لك أننى أريد التخلص منه .. ؟
ــ كل سيدة تفعل هذا ما دامت غير متزوجة ..
ــ ومن حدثك بأنى غير متزوجة .. ؟
ــ لم أكن أعرف هذا .. من هو ..؟
ــ أنت .. ومن كل كلامك المعسول عرفت رغبتك الأكيدة فى الزواج منى .. فلماذا تراوغ الآن كالثعلب .. سنتزوج قبل الفضيحة ..
ــ لم أستعد للزواج الآن .. وهو مسئولية وأعباء .. وأنا بحكم عملى فى مكتب للسياحة كثير الأسفار إلى الخارج .. وأحيانا يطول غيابى إلى سنة .. ومتى وجدت وظيفة أكثر استقرارا أعدك بالزواج ..
ــ إذا لم تقبل الزواج الآن .. سأحتفظ بالطفل ...
ــ هذا جنون .. وسمعتك .. لقد كنت تخشين السنة الناس من مجرد ذهابك إلى السينما ..
ــ ولكننى الآن لا أعبأ بشىء وسأحتفظ بالطفل ، لأنى فى حاجة إليه .. فى حاجة إلى رجل يقف بجانبى .. فى حياتى وعملى .. سأحتفظ به ..

وتنمرت سحنتها .. وخشيت أن يتطور الحديث معها إلى عراك .. فتركتها وحدها .. وخرجت إلى الشارع ..

ثم رجعت إلى نفسى ، وأدركت أن من الصالح لى أن أجاريها فى رغبتها فى الزواج ، لأمنعها من اثارة فضيحة .. ولذلك عدت إليها وأخذت أطمئنها .. ووعدتها بالزواج بمجرد تسلم المكافأة من الشركة التى يوزعها علينا « لوسيانى » عند مقدمه من أوربا .. لنستطيع بهذه المكافأة أن نؤثث بيتا جميلا يليق بنا .. واقتنعت .. وعاد إليها الصفاء ..

وأصبحت تجىء إلى شقتى فى اسبورتنج ، وهى مطمئنة غاية الاطمئنان .. كما كنت أذهب إلى بيتها فى الليلتين اللتين تغيب فيهما زميلتها « عفاف » وتسافر إلى أهلها فى دمنهور .. وكانت تسافر مساء الخميس كل أسبوعين .. وتعود فى صباح السبت إلى المصلحة مباشرة .. فكنا نقضى مساء الخميس ومساء الجمعة أنا وصفية معا فى عناق متصل .. وشعور بالراحة النفسية والحرية لأننا وحدنا فى البيت ..

وكنا نتخفف من ملابسنا ونستحم معا فى الحمام .. ونغطس فى البانيو الدافئ ..

وقد ولد عندى الحمام والسخان فكرة رائعة .. وجدت فيها خلاصى .. ولكننى أجلتها إلى حين ..

* * *

وسيطرت عليها فكرة الزواج .. سيطرة تامة فكنا نتحدث عنه فى الصباح والمساء وفى كل وقت نلتقى فيه ..

وكانت تقول لى أن صاحبة لها وجدت شقة فى ميامى .. أو فلمنج .. أو كليوباترا .. من البيوت القديمة ويطلب أصحابها خلوا ليس فيه مغالاة .. وتحت رغبتها كنا نذهب أنا وهى ونرى هذه الشقق لأزيد من اطمئنانها إلى وعدى ..

وفى كل شقة يظهر العيب واضحا .. فكنا نعود من الجولة دون نتيجة ..

واخيرا استقر رأينا على شقة جميلة فى الشاطبى .. ووجدناها الأحسن لنا فهى قريبة من مكان عملها وعملى .. كما أنها فى عمارة حديثة البناء وايجارها مقبول .. ونستطيع تأثيثها بسهولة بأثاث جديد لأنها من حجرتين فقط .. وحصرنا تفكير المستقبل فيها ..

وكنت إلى هذه اللحظة أشك فى الحمل وأتصور أنها لعبة جهنمية لعبتها لترتبط بى .. ولكننى تأكدت منه ذات ليلة وأنا فى بيتها .. وكانت تتجرد من ملابسها فى غرفتها ولا تتوقع دخولى عليها .. فلاحظت البروز بوضوح .. وأصفر وجهى فإن هذا الشىء لا أحبه أبدًا .. يكون لى نسل منها .. ؟ لا .. لا .. أبدا .. أبدا .. وساقنى التفكير المرعب إلى حالة جنون ..

* * *

وحدث فجأة ما شغل كل وقتى .. فقد كان هناك فوج من السائحين الأجانب عائد إلى جنوا على سفينة تركية بعد عدة أيام .. فوجدت الفرصة متاحة أمامى ، وأبديت لمدير المكتب رغبتى فى أن أسافر مع هذا الفوج على نفس الباخرة .. وأشتغل فى " جنوا " أو " مارسيليا " الأشهر المقررة لكل منا فى الخارج .. ووافق وبدأت الاتصالات بمكتبنا فى جنوا .. وبدأت أجهز جواز السفر والاجراءات كلها ..

وأخذ ذهنى يشتغل فى الوقت عينه بما هو أهم عندى .. ووجدت فى السفر الفرصة الذهبية لتنفيذه على الفور ..

وتحدد يوم السفر وتمت جميع الاجراءات وبقى على ميعاده خمسة أيام قضيتها مع « صفية » فى نزهات ليلية متصلة ..

وكتمت عنها خبر السفر طبعا .. وأكثرنا من الحديث عن الزواج وما يدخره لنا المستقبل من هناء ..

وفى صباح الثلاثاء ، علمت منها أن عفاف مسافرة إلى دمنهور فى مساء الخميس كعادتها .. فطار قلبى من الفرح ..

وفى مساء الخميس أعطتنى « صفية » المفتاح .. فدخلت الشقة قبلها .. وأغلقت هى المكتبة قبل ميعادها بساعة وجاءت منشرحة تواقه للعناق ..

وفى صباح الجمعة استيقظت قبلها ودخلت الحمام .. وأشعلت السخان وأخذت أعاين الجهاز بدقة وتناولت الخرطوم .. ووجدت أن الثغرة فيه تكفى ..

وبعد خروجى من الحمام كانت قد استيقظت فسألتنى :
ــ هل أخذت الحمام .. ؟
ــ أجل ..
ــ سأعد الشاى واستحم مثلك .. لقد تأخرت عن المكتبة ياعزت .. بسبب حبى لك .. وجنونى بك ..
ــ اليوم جمعة .. والتأخير ساعة لا يهم ..
وفرغنا من الشاى ..

وتناولت هى البرنس وملابسها الداخلية .. وبصرت بى خارجا من الحمام وهى تستعد لدخوله ..

فسألتنى :
ــ هل نسيت شيئا .. ؟
ــ نسيت الساعة .. وأشعلت لك السخان .. لأنه يعاكس ..
ــ شكرا ..

ودخلت الحمام وأغلقت الباب .. وسمعت صوت الدش .. وظللت أسمعه .. واستمر صوته .. ولم ينقطع تدفق المياه ..
وشممت رائحة الغاز يتسرب من فرجة الباب ..

وخيل إلىّ أنه ملأ جو الشقة فارتديت ملابسى على عجل ..

وعدت إلى باب الحمام فلم أسمع صوتها .. وكان من عادتها أن تغنى وهى واقفة فى البانيو ..

واستمر صوت الماء ..

* * *

وخرجت سريعا من باب الشقة .. واجتهدت ألا ترانى امرأة البواب وأنا أجتاز عتبة العمارة ..

واتجهت مباشرة إلى المكتب وكنت هادئ الأعصاب إلى الحد الذى جعلنى أعجب لحالتى ..

وبعد اغلاق المكتب .. ذهبت إلى السينما ثم دخلت حانة لأشرب وأثقل رأسى وأنام ..

ولما فتحت باب شقتى الصغيرة فى اسبورتنج وتمددت على السرير لم أنم .. وظللت أسمع صوت البحر ..

كان يهدر فى غضب .. لم أسمعه فى مثل هذه الحالة من الهياج أبدا .. كان موجه يعلو على رصيف الشارع ويضرب بابى المغلق .. والرياح من ورائه تصفر ..

كان البحر يحكى فعلتى وكل ما فعله ويفعله الإنسان بأخيه الإنسان فى هذا العالم المضطرب المتوحش منذ الأزل من عهد قابيل وهابيل ..
كان يحكى والرياح تصفر ..

* * *

وأغلقت أذنى ، وأغلقت عينى ، واسترخيت .. لم أعد أسمع صوت البحر .. بعد يومين ستقلع الباخرة .. وسأسافر وربما إلى الأبد ..

* * *

وتنفست الصعداء .. وأنا أدخل من باب الميناء .. وكدت من الفرحة أن أصرخ ..

وقدمت الجواز ودخلت الصالة الواسعة .. والباخرة أمامى على الرصيف ..
وكانت معى حقيبة واحدة ومر كل شىء سريعا ..

وفى مكتب بوليس الميناء .. نظر الضابط إلى الجواز .. وإلى وجهى .. ثم طوى الجواز ..

وقال لى وهو يبتسم :
ــ استرح لحظة ..
ــ أهناك شىء .. ؟
ــ سيدة تنتظرك فى الخارج .. وتريد وداعك ..

ونظرت من وراء الزجاج فوجدت « صفية » واقفة هناك فى الخارج عند صالة الجمرك وقد ظهر بروز بطنها بوضوح من خلال ثوبها الضيق ..

===============================
نشرت
فى صحيفة الجمهورية 17/8/1982 وأعيد نشرها بمجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " عودة الابن الضال " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002

===============================

البرج

البرج

قصة محمود البدوى


عندما استولى الألمان على « الضبعة » فزعت الشركات الكبرى وبيوت المال الموجودة فى القاهرة .. وأخذ الأثرياء والذين ارتموا فى أحضان الإنجليز يعدون العدة للهرب إلى السودان ..

وكانت الغارات متصلة فى النهار والليل والحرب قد أصبحت على خطوات منا ..

وأسرع الناس يخفون جواهرهم وحليهم ويسحبون ودائعهم من البنوك ..

واتخذت طريقى إلى البنك الأهلى كالعادة لأصرف المبلغ المخصص لمرتبات الموظفين فى الشركة ..

ووقفت على جانب من الطاولة الطويلة أعد السبعة آلاف جنيه وبجوارى زملائى من الصيارف .. وكانوا يتحدثون فى قلق .. عن مصيرنا جميعا فى الشهر المقبل .. وهل سنجىء إلى هنا ونقف هذه الوقفة .. ؟ أو سنكون فى عرض الطريق ..

ووضعت المبلغ فى حقيبتى وخرجت من صالة البنك إلى شارع قصر النيل ووقفت على الناصية انتظر سيارة أجرة لأركبها إلى الشركة كما كنت أفعل كل مرة .. وفى أثناء ذلك دوت صفارة الانذار .. فملت إلى الباكية .. لما سمعت أزير الطائرات فوقى وقصف المدافع المضادة .. وكان الضرب شديدا حتى خيل إلى أن بعض الجنود قد هبطوا بالمظلات فى مداخل العاصمة وعلى رأس « الكبارى » والطرقات ..

واشتعل رأسى بخواطر لم أفكر فيها قط وأنا واقف وبجوارى أكياس الرمل التى تحيط بالبنك .. جاءت من وحى الساعة .. وطالت الغارة .. وكانت كل لحظة تمر تشد من عزمى إلى تنفيذ ما انتويته .. بأسرع ما فى المستطاع ..

وبحماسة الشباب لكل مغامرة .. ودون خوف .. انطلقت بالمبلغ إلى بيتى وأخذت أعد حقيبة السفر بالسرعة التى يتطلبها الموقف ..

وكانت محطة القاهرة تعج بالجنود الإنجليز الهابطين من القطارات والصاعدين إليها بأحمالهم ، وبنادقهم على أكتافهم .. وأثر الهزيمة باد على وجوههم .. والناس يتخاطفون الصحف .. والأنباء فى كل لحظة تأتى بخبر جديد ..

وسرنى الزحام الذى وجدته فى المحطة .. والجمهور الغفير بأزيائه المختلفة.. فتهت فى وسط هذه الجموع حتى ركبت قطار الظهر المسافر إلى الإسكندرية ..

ولم أكن أعرف حتى بعد أن تحرك القطار أين سأنزل ولكننى كنت أعرف كل شبر فى الإسكندرية ..

* * *

وكانت الحركة فى الإسكندرية عادية جدا والمدينة كما ألفتها .. ولا يغير من وجهها سوى وجود الجنود الإنجليز والأمريكان بكثرة فى الشوارع .. وكنا فى بداية الصيف .. والجو لطيف .. والمدينة لا تزال ضاحكة ..

وجلست فى مدخل قهوة صغيرة فى شارع « النبى دانيال » لأستريح وأختار مكان الإقامة ..

ووجدت بعد تأمل أن الموقف يتطلب أن أبتعد عن كل مكان يمكن أن ألاقى فيه شخصا أعرفه .

واخترت بقليل من التفكير « المندرة » .. لأنى أعرفها جيدا ولأنها بعيدة عن العيون ..

وقد تنشر الصحف صورتى فى الصباح التالى وتروى ما حدث بإثارة .. وقد تجبن الشركة عن النشر لأنها يهودية .. وتتوقع دخول رومل .. فى كل لحظة ..

وفى كلتا الحالتين أنا آمن فى المندرة .. وهى خير مكان ..

وخلال لحظات كانت تمر فى زحمة المدينة كنت أنسى أننى هارب وأحمل سبعة آلاف جنيه مسروقة ..

وبلغت « المندرة » وقرص الشمس يتدلى فى البحر .. وكان البحر لا يزال يهدر وموجه يزحف على الشاطئ الرملى ..

واتجهت إلى المساكن .. وأنا أعرف أن كثيرا من السكان هجروا الإسكندرية بسبب الغارات وزحفوا إلى الريف ..

فكانت المساكن الخالية كثيرة جدا .. ولم أكن أود أن أستعين بأى انسان فى البحث عن غرفة ..

تركت المنازل القريبة من البحر ، وعبرت شريط سكة حديد « أبى قير » كنت أود أن أجد غرفة هناك فى المنازل المقامة على التلال .. والتى تحيط بها الحدائق الصغيرة .. هناك يمكن التخفى فلا أحد يتعقبنى فى مثل هذا المكان ..

كانت المنازل متشابهة وقليلة الارتفاع .. واسترعى انتباهى منزل على شكل برج كان أعلاها جميعا .. وبه لافتة تشير إلى غرفة للإيجار ودرت حوله مرتين .. ثم ضغطت على الجرس .. والحقيبة لا تزال فى يدى وعيناى تتطلعان إلى فوق .. ولم أتلق ردا .. فطرقت الباب خشية أن يكون الجرس معطلا ، طرقته مرتين فلم أسمع غير السكون فتسحبت متمهلا على الرمال .. وأنا أفكر فى الذهاب إلى جهة أخرى ..

وهفا إلى من عل صوت ناعم يقول :
ــ مين .. ؟
فتطلعت إلى فوق .. فرأيت سيدة شابة تطل من نافذة البرج ..

بدت لى أنها خارجة على التو من الحمام .. كانت محلولة الشعر .. والروب الأزرق ينفرج عن صدر كالمرمر ..

وقلت وأنا أحاول أن أجعل صوتى خافتا لا يسمع ..
ــ فيه غرفة مفروشة ؟
ــ أنا نازلة ..
وحدث ما توقعته .. فهبطت وفتحت الباب .. ووقفت أمامى تتفرس فى وجهى وأنا ممسك بالحقيبة .
وسألتها عن الغرفة ..

فسألتنى بنعومة :
ــ عاوزها .. شهر واحد أو شهرين .. ؟
ــ شهرين وربما أكثر .. عندما تستقر الأمور ..
ــ طيب .. لما أسأل ماما .. اتفضل ..

ودخلت من الباب الخارجى .. إلى فسحة صغيرة .. وقدمت لى كرسيا .. وانسابت إلى الداخل وهى تقول :
ــ يا ماما .. فيه واحد أفندى عاوز يسكن ..
وسمعت الجواب آتيا من بعيد دون أن أرى صاحبته ..
ــ طيب يا بنتى وماله .. فرجيه على الغرفة اللى فوق ..

وصعدت سلالم البرج .. وراءها إلى غرفة علوية مفروشة بأثاث بسيط .. ولكنها جميلة وتطل على ناحية البحر ..

ويبدو أنها كانت بداية لشقة كاملة .. ولكنها لم تتم فقد ظهر أثر ذلك على السطح ..

وكان لابد أن استعمل دورة المياه الموجودة فى شقتها .. لأن الغرفة لم يكن لها دورة مياه خاصة ..

ولذلك أعطتنى السيدة مفتاح الشقة .. ونقدتها أجر الغرفة مقدما عن شهر ..

وأخذت تدلنى على كل شىء فى الغرفة .. ثم خرجت بى إلى السطح وأرتنى برج الحمام .. الذى أصبح خاليا تماما .. وشاهدت معها المنظر كله وما يحيط بالبيت من بساتين .. ومنازل صغيرة على غاية من الجمال ..

وسألتنى بدماثة إن كنت فى حاجة إلى مزيد من الأثاث فى الغرفة .. فشكرتها .. وقلت لها أن الموجود فيها فوق الكفاية ..

وحيتنى ونزلت إلى شقتها وجلست ببذلتى متجها إلى ناحية الشمال .. وكانت الشمس تجنح للغروب والهواء يحمل إلى من بعيد نسيم البحر ..

وكانت تلال الرمال المحيطة بالبيت تلمع فى الشمس والنخيل الكثير المحيط بالمساكن يوحى إلى بأننى انتقلت فجأة إلى واحة .. هادئة ساكنة ..

كان يخيم على « المندرة » .. هدوء غريب .. كأننا فى صميم الريف هدوء كنت أطلبه بجدع الأنف فوجدته بسهولة .. أنه أحسن مكان لهارب ..

وكانت الحقيبة الملآنة بأوراق البنكنوت موضوعة هناك فى الركن ولم افتحها .. وأخذت أفكر فى المكان الذى أخفى فيه المبلغ .. أأتركه كما هو فى الحقيبة أم أنقله إلى الدولاب .. وأخيرا وضعته فى درج الدولاب .. وغطيته بالملابس الداخلية ..

وخلعت بذلتى واغتسلت من تراب السفر .. ورأيت شقتها وكانت مكونة من غرفتين صغيرتين وفسحة .. ورأيت والدتها العجوز .. ولم أر فى البيت سواهما .. وكان الأثاث يدل على أن الأسرة متوسطة الحال .. ووجدت فى عين الأم صرامة لما وقع بصرى عليها .. وكانت ساكنة الطائر ولكن حسها كان يعلو دائما على صوت ابنتها .. وكانت هذه طيعة لها على طول الخط ..

* * *

وعضنى الجوع .. فركبت القطار فى الليل إلى المدينة .. وكان الاظلام تاما .. والناس رغم الظلام فى حركة دائبة .. والملاهى ممتلئة بالجنود الإنجليز والسكارى ..

وكانت هناك فصائل من الجنود فى المحطة راحلة إلى الجبهة .. والدبابات تتدحرج بعيون عمياء فى الشوارع الرئيسية ..

وكان سكان المدينة قد خرجوا إلى المقاهى يستمعون فيها إلى أخبار الحرب.. وإلى دور السينما والملاهى المتناثرة على طول الكورنيش ..

ودخلت مرقصا .. وجلست إلى مائدة فى الركن وطلبت كأسا من البراندى .. وكان الضوء خافتا ورائحة الدخان تغطى المرقص .. وفى دائرة الضوء راقصة مصرية شابة ترقص رقصا شرقيا مثيرا ..

وكان جسمها لدنا بديع التقاطيع .. ومن عينيها يطل بريق الشهوة .. وحولت نظراتى إليها ولاحظت أنى لا أحول طرفى عنها ولما انتهت الرقصة مرت بجانبى لأدعوها إلى مائدتى ولكنى لم أفعل .. وجلست مترددا .. ومشت نحو زبون آخر وجلست تحادثه ..

وشعرت بعد قليل أن التردد فى دعوتها قد ولد عندى أحساسا بالضيق.. فطلبت كأسا ثم كأسا .. وجلست أشرب حتى أحمرت عيناى وأحسست بثقل فى رأسى .. وأخذت أحس أكثر وأكثر بفظاعة ما عملته فى الصباح .. وبأننى لا أستطيع أن أختفى أكثر من شهر .. ثم أقع فى قبضتهم .. وأنه لا شىء ينقذنى إلا دخول رومل وسحق الشركة بكل من فيها من يهود ..

وكان الخوف من دخول السجن قد أرعبنى فجلست حزينا منقبض الصدر ..

* * *

وعندما خرجت إلى الشارع كان الجو لطيفا وهواء البحر يرطب الوجوه .. وشاهدت بعض المجندات الإنجليزيات يتبخترن فى شارع صفية زغلول .. فى ملابسهن الرسمية وكن جميلات أنيقات .. وخدودهن وردية .. وكان الحزن والقلق والخمر التى شربتها قد جعلتنى أشتهيهن بجنون ، كانت الرغبة الجنسية هى منقذى الوحيد من عذابى وقلقى ..
ولما ملن إلى شارع « شريف » تبعتهن ودخلن السينما .. فدخلت وراءهن وجلست فى نفس الصف ..

وكان الفيلم مثيرا .. ورغم ما فيه من مواقف فقد جلسن ساكنات ..

وكان هناك جنود انجليز فى الصالة يشاهدون الفيلم مثلنا فلم أحفل بهم اطلاقا .. وتولد عندى فى هذه اللحظة أحساس رهيب للقتال .. ودوت صفارة الانذار فى الخارج .. فتوقف العرض فى السينما .. وظهر على وجوه المجندات الاضطراب .. والخوف .. ونحن فى هذا المستطيل الضيق والظلام يرج النفس ويمزقها ..

وتلقين من بعض الجنود اشارة فنهضن وخرجن متسللات .. كانت هناك عربات مغلقة تجمعهن فى الشوارع ..

وخرجت بعدهن ومشيت فى الظلام إلى المحطة وأنا شارد الذهن تماما ثم ركبت القطار إلى المندرة ..

* * *

ومن عادتى أن آخذ حماما بعد كل جولة فى المدينة فخلعت بذلتى ولبست البيجاما ونزلت إلى شقة سعدية وكان السكون مخيما ولم أكن أعرف أتنام مع أمها فى غرفة واحدة أم تنام وحدها .. لم أسمع حسها .. ولكن فى الصباح عرفت أنها كانت ساهرة وأحست بى وأنا فى الحمام ..

ومرت عشرة أيام استطعت أن أشعر فى خلالها بالاطمئنان وأن أحدا لا يتعقبنى وأن مصيرى قد أصبح مجهولا للشركة فمن المحتمل جدا أن يتصوروا أننى أصبت فى غارة .. أو قتلت فى حادث سيارة فى الظلام ..

ولكن الشىء الذى أقلقنى أن زحف رومل قد توقف فى العلمين .. مما جعل الشركات تجمع شملها من جديد ..

ولم أكن أود أن أطلق لحيتى أو أغير زيى فألبس الملابس البلدية مثلا بدل البدلة .. لم أكن أود أن أفعل هذا أمام « سعدية » .. وأمها حتى لا أثير شكوكهما .. وعلى الأخص أنه لم يكن بينى وبين الأم أية مودة .. وكل ما فعلته اننى غيرت اسمى من إبراهيم عبد الكريم إلى سيد عبد القادر .. ولم أبق فى حوزتى أية أوراق تشير إلى اسمى الحقيقى ..

وكان البيت هادئا .. وليس فيه من السكان .. سوى سعدية وأمها وساكن فى الدور الأرضى .. وكنت لا أراه إلا لماما ..

وكان « سليم » يعيش وحيدا .. ويقولون أن زوجته هجرته .. لما اشتعلت الحرب واشتغلت راقصة فى القاهرة .. وعشقها أحد الضباط الإنجليز وأصبحت محظيته ..

وكان الرجل فى حوالى الثلاثين من عمره قويا طويل العود .. ولكن أثر حادث هرب زوجته على عقله .. فأصابته لوثة .. من كثرة كلام الناس عن زوجته وتقريعهم .. وكان الصبيان يتضاحكون عليه فكان يثور عليهم ويحاول ضربهم ثم يهدأ سريعا ..

وأصبح يبتعد عنهم ويعيش فى عزلة تامة ولا يأتى إلا إذا خيم الظلام .. فكنت لا أراه إلا نادرا .. ويخيل إلى أنه لا يأتى إلى البيت إلا لينام .. ولم أكن أعرف عمله على وجه التحقيق ..

وانقضى أسبوعان آخران .. ووجدت نفسى لطابع الملال أقضى الليالى كلها فى ملاهى الإسكندرية .. وكنت دائما أضع فى محفظتى .. عشرة جنيهات للصرف .. وثلاث ورقات كل ورقة بمائة جنيه فى جانب من المحفظة وأبقيها ولا أمسها على احتمال أن البيت سيدمر فى غارة جوية وهذا المبلغ سأعيش به إلى حين ..

ولم يكن الظلام الذى يغلف المدينة يرهبنى ولا وجود الجنود الإنجليز والأمريكيين فى كل مكان ..

وكانت قوافل سياراتهم تتحرك دوما .. فى الشوارع الرئيسية وهى حاجبة أنوارها خشية الغارات التى اشتدت على الإسكندرية ..

وكانت قطع من الأسطول البريطانى راسية هناك فى مياه الإسكندرية .. ولكنها كانت لا ترى بالعين المجردة فى عرض الماء .. كانت تختفى عن الأنظار وكان وجود فصائل من الجنود الإنجليز فى « أبى قير » يجعلهم دائما من ركاب القطارات الذاهبة إلى المندرة والراجعة منها .. وفى الليل كنت أرى بعضهم سكارى يترنحون فى شوارع « المندرة » أو فى صحبة من يقودهم إلى حيث النساء الساقطات ..

وكان الفراغ والتبطل وظلام الحرب ووجود المال معى بغير حساب يجعلنى أصرف بسخاء وأدور على الملاهى كل ليلة ..

ودفعنى القلق .. إلى طلب النساء .. فكنت ألتقى بهن فى شارع « البير » وأرافقهن إلى مساكنهن ..

وحدث ذات ليلة أن نشبت معركة رهيبة بين الجنود الإنجليز والأهالى فى شارع البير وأطلق فيها النار وكدت أن يقبض على لولا أننى جريت فى الظلام ودخلت فى أول باب مفتوح صادفنى فى الشارع .. وكنت أسمع خلفى ضوضاء المعركة وصوت الرصاص وأحاول بكل جهد أن أبتعد عنها .. حتى لا يقبض على وتقع الكارثة ..

والظاهر أن سكان العمارات المجاورة فى الحى أحسوا بها .. لأنهم أطلوا من النوافذ والشرفات فى الظلمة البادية وسمعت وأنا فى مدخل البيت حركة أقدام تقترب فصعدت إلى الدور الرابع .. ووقفت على البسطة مذعورا وأنا أسمع جلبة رهيبة تقترب فى كل لحظة ..

ووقفت أمام باب مغلق أحاول أن أقرأ اللافتة المكتوبة عليه ورقم الشقة.. وهنا سمعت الباب المقابل ينفرج وأطلت منه سيدة مصرية فى حى معظم سكانه من الأجانب ..

ولما بصرت بحالى .. قالت بعذوبة :
ــ اتفضل ..
فدخلت على التو دون تردد .. وأغلقت الباب ورائى وأخبرتنى أنها أحست بالمعركة منذ بدايتها .. وأننى فى أمان الآن .. ويمكن أن أقضى عندها الليل كله .. أو بعضه .. على حسب رغبتى .. وأنها وحدها ويؤنسها وجودى وأدركت من حركاتها أنها غانية ..

وجلسنا نتجاذب أطراف الحديث وكانت فرحة وشربنا وأعطتنى شفتيها.. ونمت فى فراشها ..

ولما خرجت فى الصباح .. إلى الطريق عرفت أنها سرقت محفظتى بكل ما فيها من نقود ..
وقضيت أسبوعا كاملا لا أبرح فيه المندرة ..

* * *

وأصبحت فى الشهر الثانى من هروبى وكان كل شىء مريحا فى البيت .. ولم أكن فيما عدا غسل ملابسى أشعر بأى مضايقة .. وكنت أرسل القمصان للمكوجى ولكن الملابس الداخلية ترددت فى ارسالها لأنى خشيت أن يغسلها مع ملابس أخرى .. فكنت أغسلها بيدى فى الحمام ..

وحدث أن رأتنى سعدية وأنا أفعل ذلك .. فتناولتها من يدى وقالت بعذوبة لم أسمعها من فمها من قبل ..
ــ ولماذا لم تخبرنى .. اترك غسيلك هنا .
وشكرتها بقلب حار ..
ولقد أخجلتنى بفعلها هذا ، وزادت رقتها على مدى الأيام واهتمامها بى فتحولت إليها بعد أن كانت عندى مجرد صاحبة بيت .. كانت متوسطة الطول سمينة قليلا .. وكان قوامها جميلا متناسقا .. ووجهها أبيض فى استدارة وشعرها أسود غزيرا .. وعيناها جميلتين عذبتين .. وعلى شفتيها رضاب يتحير أبدا ..

وكان صوتها خافتا عذب الجرس .. وكانت ترد على زعاق أمها بصوت هادىء حيرنى ... وكنت أسأل نفسى دائما لماذا لم تتزوج فتاة فى مثل جمالها ولها بيت تملكه ..
وكانت قليلة الخروج وست بيت ممتازة ..

وكنت بعد أن أخرج من الحمام أراه قد نظف فى دقائق قليلة وعاد رخامه يلمع .. وكان فراشى وحجرتى فى غاية من النظافة ..

وكانت تقدم لى الشاى .. والماء المثلج .. وتركب الزراير الساقطة من القمصان .. وتكوى لى البيجامة وتعد لى ماكينة الحلاقة فى الحمام ..

ولم أكن أبغى بيتا وحنانا أكثر من هذا فى حياتى .. وكان يحزننى أننى وجدت هذا البيت وهذا الحنان وأنا هارب .. مطارد ..

وكان الهدوء الذى خيم على جبهة القتال فى العلمين يمزق أعصابى .. إذ كنت أجد فى استمرار الحرب وتأججها نجاة لحياتى ..

وكان يخفف من وقع الأمر على نفسى استمرار الغارات .. والاظلام فى كل مكان .. وهجرة السكان من المدينة إلى الريف ..

وقد جعلنى القلق وكثرة المال الذى فى حوزتى أتردد على البغايا .. وأصاحب الراقصات فى الملاهى وكنت أشعر بجفاف حياتى وضحالتها ..

ولكن لم يكن من سبيل إلى شىء آخر أعمله .. ونسيت أهلى فى القاهرة.. إذ كانوا قلة وكنت أعيش فى عزلة تامة عنهم حتى قبل بداية الحرب .. ولم أكن أعرف عنهم شيئا اطلاقا وأنا فى الشركة ..

ودارت فى ذهنى مشروعات كثيرة كلما نظرت إلى أوراق البنكنوت فى الدولاب ..

وفكرت فى أشياء أعملها وأدر منها ربحا كبيرا ولكننى كنت أتردد فى التنفيذ وأخيرا استقر رأيى على أن أرحل إلى الخارج بعد أن أعثر على من يهربنى فى سفينة بضائع ..

ولم أكن أدرى هل استرابت السيدة سعدية من حالتى .. فأنا متأنق وأصرف بسخاء ولكننى كنت أخرج فى الصباح كأى شخص يعمل ولا أعود إلا فى ساعة القيلولة ..

وعندما بدأ الخريف تغيرت طباعى وزادت صلتى بها .. حتى كدت أن أعترف لها بما فعلته ..

* * *

ولقد طرق بابى ذات ليلة .. بعد أن عدت من الخارج وخلعت بذلتى .. فارتجفت إذ لم أعتد على طارق فى الليل .. ونظرت إلى المبلغ المسروق وكنت أود أن أخفيه فى طيات المرتبة ولكننى وجدت أن أى عمل الآن لا ينفع ..

واضطربت .. ثم سمعت صوتها .. ففتحت الباب فوجدتها على الباب تحمل لى الغسيل كله مكويا ..

ودخلت وهى تقول :
ــ نغير لك أكياس السرير .. والملاية .. لأنك نسيت ولم تترك المفتاح ..
ونظرت بنعومة وقالت :
ــ أمسك معى المخدة ..
وأخذت تدخل فيها الكيس .. وجذبتنى بحركة بارعة فوقعت وضحكت.. وأمسكت بها وهى نشوانة من الضحك .. وضممتها إلى صدرى .. وأخذت أقبلها بعنف وشراسة وفاجأتها الحركة .. فبهتت .. ثم استجابت برغبة منطلقة ..
ولقد لفنى بعد هذه الليلة مثل الاعصار .. وأصبحت لا أستطيع أن أقاوم اشتهائى لها وشغفى بها .. وكانت تأتينى كل ليلة بعد أن تنام أمها ..

وكنت كلما وجدتها وحدها فى الحمام أو فى المطبخ ووالدتها بعيدة عنها .. أعانقها بحرارة ..

وأخذت أغمرها بالهدايا .. أشترى لها أفخر الثياب وأنفس الجواهر ..
وكنت أعطيها النقود بغير حساب ..

وتغير الحال فى البيت .. وشعرت الأم بما فعلته لابنتها فكفت عن الجفاء الذى كانت تقابلنى به ..

ولم تسألنى سعدية عن مصدر هذا المال .. ولعلها خمنت شيئا .. ولكنها سكتت لم تصرح لى ..

وكنت أعتصر قوامها اللدن وكأننى أشرب الرحيق لحياتى .. ولم تكن ترتوى من حبى أبدا .. كانت تطلب المزيد .. وقد جعلنى هذا الاعصار أؤجل رحيلى .. وكنت قد اتفقت مع بعض الصيادين على أن يحملنى إلى سواحل بيروت .. وهناك أهرب إلى أوروبا .. عن طريق تركيا .. وقد قبل هذا نظير خمسمائة جنيه ..

لقد تكشف لى أن هذه المرأة قد استحوذت على ، وفصلتنى عن الحياة .. وعن كل ما يجرى فى المدينة .. ونسينا الحرب .. وعندما كانت تدوى صفارة الإنذار لم نكن نشعر بها .. وكنا نود أن يطول الظلام ليطول عناقنا ..

وكنت أتأمل فمها وشفتيها الغليظتين والرضاب الذى ارتوت به روحى وشعرها المتموج وقوامها بكل ما فيه من شهوة .. وأروح فى دوامة الغيرة وأتساءل من الذى تمتع بهذا واعتصره قبلى ولا أعود لنفسى إلا وأنا أشعر بأناملها الخفيفة وهى تمسح على جبينى ..

* * *

كنت كل يوم أتحسس النقود فى مكانها وأطمئن على وجودها .. وأراها رغم كل الذى صرفته كأنها لم تمس ..

كانت أوراق البنكنوت مكدسة فى صفوف كما وضعتها فى الدرج .. مغطاة بالقمصان ..

وأخذت أسائل نفسى ما الذى يفعله الأغنياء الذين يملكون الملايين .. ما الذى يفعلونه وهم يحرمون باكتنازها ملايين الأفواه الجائعة من حق الحياة ..

ما الذى يفعلونه .. وما الذى فعلته بالآلاف التى سرقتها .. لا شىء .. سوى أنها جعلتنى أحس بالضياع ..

لقد مزقنى القلق .. وحطم روحى .. كانت تغشانى موجات من الكآبة .. فكنت أقفل الغرفة علىَّ من الداخل وأزحف إلى الفراش ..
كانت رغبتى شديدة إلى الوحدة .. حتى وإن كنت أتوقع أنها بعد لحظات ستطرق بابى ..

ربما كانت الجنيهات الخمسة عشر التى أتقاضاها بعرقى من الشركة أنفع لى من هذا المبلغ .. ولكننى على أى حال قبل بداية الحرب وبعدها كشاب كنت أحس بالضياع .. وقد يكون سببه الاحتلال .. وقد يكون سببه أن كل القيم قد انهارت أمامى .. ومزقت الصور والمثل وأصبحت أعيش فى ظلام ..

* * *

كنت أفكر فى سعدية وأنا راجع وحدى فى الليل .. هل تحبنى .. وهل كانت متزوجة وأين زوجها أنها لم تكن عذراء هل جرفها التيار .. ؟

وتغشانى الضباب .. وكانت الغيوم تخيم على السماء .. وقبل أن أقترب من البيت أحسست بحركة غير مألوفة فى الحى الهادىء ..

ولما اقتربت أكثر وجدت شيئا أفزعنى .. وجدت نطاقا من الجند مضروبا حول الشارع وعساكر من البوليس المصرى .. والبوليس الحربى الإنجليزى وعلمت أنهم وجدوا عسكريا إنجليزيا مقتولا وموضوعا فى برج الحمام ودلهم عليه قبعته وقد أسقطتها حدأة فى الشارع ..

وكان الهمس يدور بأن « سليم » الساكن فى الدور الأرضى هو الذى قتله وهرب سليم لم يعثروا له على أثر وفتشوا البيت كله ..

فتشوا غرفتى .. وقلبوها ظهرا لبطن .. وكسروا الدولاب وعثروا على المبلغ ..

كنت أسمع هذا الهمس يدور حولى فى الظلام وأنا واقف ..

* * *

وهربت فى جنح الظلام دون أن يشعر إنسان بوجودى وكان معى مبلغ ضئيل .. واشتغلت وقادا فى السفن .. وحمالا فى الموانى .. وبائعا جوالا ..

وطفت حول الدنيا فى مدى عشرين عاما .. انتحلت فيها كل الأسماء .. وكل الجنسيات وتعلمت سبع لغات حية وميتة وعاشرت كثيرا من النساء ..

ورغم كل ما لقيته من عذاب .. فإن الحياة ستظل فى نظرى جميلة وضاحكة والإنسان وحده .. هو الذى يسود وجهها ..
=================================
نشرت القصة فى المجموعة التى تحمل اسم " السفينة الذهبية " لمحمود البدوى عام 1971 وأعيد " وبمجموعة " قصص من الإسكندرية " من تقديم واعداد على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ الناشر مكتبة مصر 2002
================================